في سياق التّشتّت الأيديولوجيّ وغياب الوعي القوميّ عند الإثنيّات المسيحيّة لا بدّ من طرح مسألة السّفسطائيّة التي ينتهجها السّياسيّون المسيحيّون، وتحديدًا ما صرّح به مؤخّرًا جبران باسيل حول "تطوير النّظام انطلاقًا من الطّائف"، واعتماد "لامركزيّةٍ إنمائيّةٍ"، وما شابهها من المصطلحات والعبارات، فضلًا عن هجومه غير المبرّر على مفهوم الفيدراليّة، وتبنّيه ضمنًا سرديّة الإسلام السّياسيّ عن تعارض النّظام الاتّحاديّ مع "العيش المشترك". والحقّ إنّ هذه المقاربة ليست براغماتيّةً سياسيّةً، بل ضربًا من الاستسلام الأيديولوجيّ لفكرٍ إمبرياليٍّ إسلامويٍّ توسّعيٍّ لا يأبه بالألاعيب اللّغويّة، ولا يهمّه التّنوّع الإثنيّ ولا الدّينيّ ولا الطّائفيّ.
الإدارة الذّاتيّة لا تحتاج إذنًا
أشار باسيل إلى "مشكلة تطبيق الفيديراليّة في لبنان هي أنّنا نحتاج إلى أنْ تكون مقبولةً من الجميع هذا في البداية، كذلك هناك المشكلة الجغرافيّة، ونحن نعتبر أنّ الغنى هو أنّ المسيحيّين منتشرون في كلّ مكانٍ ويتعايشون مع الجميع فهل نخسر هذه الميزة ليكونوا في بقعة جغرافيّةٍ واحدة؟" وثمّة مغالتطان في هذا الإطار: أوّلًا، ثمّة أشكالٌ عديدةٌ من الفيدراليّة وصولًا إلى الكونفدراليّة (وما بعدها)، ولا ينفكّ المفكّرون والكتّاب المسيحيّون الشّباب يضعون نماذجَ مختلفةً قابلةً للمناقشة والمراجعة. ثانيًا، إنّ التّطهير الإثنيّ في الحرب، فضلًا عن الاعتداءات والسّياسات الطّائفيّة في السّلم، وانتشار الأفكار الرّاديكاليّة (الإسلامويّة أو القوميّة الفاشيّة) بين المجتمعات العربيّة الإسلاميّة في لبنان، حقّق فرزًا طائفيًّا حادًّا وتهجيرًا ممنهجًا، ويلزم عن ذلك أنّ "العيش المشترك" وهمٌ، مثل الأعمال الأدبيّة اللّبنانويّة، والأساطير المصطنعة التي نشأت بعد 1920. فنحن لا تعيش في مسرحيّةٍ رحبانيّةٍ.
ثمّة خطورةٌ فعليّةٌ في الاستمرار بالوضع الرّاهن، وهو حتميّة زوال الشّعب المسيحيّ في لبنان. ألمْ يعوّل الأرمن في تركيا على نيل حقوقهم في الدّولة العثمانيّة الهرميّة الطّائفيّة، وسعوا إلى إصلاح النّظام؟ فما كانت النّتيجة؟ إبادةٌ جماعيّةٌ حسمت خيارهم الاستقلاليّ التّحرّريّ. إنّ طلب الإذن المسبق للاتّفاق على نظامٍ سياسيٍّ جديدٍ (وهو لن يُعطى)، نوعٌ من التنصّل من المسؤوليّة الأخلاقيّة والإنسانيّة. فالحقوق لا تُطلب، بل تؤخذ، وأوّلها حقّ تقرير المصير، وتنظيم وإدارة مناطق الشّعب المسيحيّ على جميع الصُّعد.
لا جدوى من الضّبابيّة اللّفظيّة
علاوةً على ذلك، إنّ استخدام عبارات مثل "اللّامركزيّة الإنمائيّة" (أو اللّامركزيّة الماليّة الموسّعة)، يحصر إطار الأزمة اللّبنانيّة والحروب المتتالية التي لحقت بالكيان اللّبنانيّ منذ نيل استقلاله، بمشكلاتٍ إداريّةٍ. وإنْ يكن المقصود فيها أبعد من ذلك، فلا جدوى من الضّبابيّة اللّغويّة، لأنّ معارضي الفيدراليّة، كواضعي نصّ الطّائف، ومجرمي الحرب بحقّ المسيحيّين، يرفضونها من منطلقاتٍ طائفيّةٍ تفوّقيّةٍ (قارن سياسات حكومة ما بعد الحرب الأهليّة الأميركيّة وبين السّياسات التّمييزيّة الطّائفيّة التي اعتمدتها حكومات ما بعد الحرب "الأهليّة" اللّبنانيّة). لماذا على المسيحيّ الاختباء خلف معجمٍ مثاليٍّ، وفرض على نفسه رقابة ذاتيّة، فيما علنًا يسعى العرب الشّيعة إلى إقامة دولةٍ لهم، ولو على أنقاض حضارتنا البائدة؟
إذن كيف السّبيل إلى حوارٍ بنّاءٍ مع عقليّةٍ تفوّقيّةٍ تعتبر حقّها الشّرعيّ ميتافيزيقيّ المنشأ، وتحديدًا ميتافيزيقيٌّ حصرانيٌّ "exclusivist" (مذهبيٌّ)؟ فالعبارات الدّاروينيّة التي يردّدها مناصرو حزب اللّه، مثل "العالم يحترم الأقوياء"، "الحكم للأقوى"، على الرّغم من كونهم ثيوقراطيّين، تؤكّد استحالة التوصّل إلى تفاهمٍ مع فكرٍ تفوّقيّ طائفيٍّ. كما من غير المنطقيّ التّعويل على من شارك في الحرب التي شُنّت على اللّبنانيّين المسيحيّين، أي شركائه في المواطنة (المزعومة)، أنْ يرضى بصيغةٍ تحفظ التّشارك والتّنوّع الثّقافيّ، وهو الذي يسعى إلى إقامة دولةٍ إسلامويّةٍ شيعيّةٍ في المدى البعيد، ويخطّط للمثالثة (وما بعدها) في المدى القريب.