الأب إدمون بخّاش - بين المسيحيّة كإيمان والمسيحيّة كثقافة

بعد الثورة الفرنسية في ١٧٨٩، حصل فصل بين الكنيسة والدولة العلمانيّة راح يتوسّع شيئًا فشيئًا مجتاحًا القارة العجوز وعابرًا حدودها الى باقي دول العالم. أصبحت اليوم المسيحيّة في اوروبا مجرد تراث ثقافي للعديد من المواطنين. فمثلاً، عندما حصل اعتراض من بعض المسلمين في اوروبا على وجود رموز مسيحيّة في بعض المدارس وبعض الاماكن العامة، لجأ المدافعون، عن احقيّة وجود تلك الرموز، إلى حجة الثقافة والتاريخ، لا الى حجة الدين والايمان، فكان تبريرهم الاساسي مستندا على أن هذه الرموز المسيحيّة إنما هي من تاريخ وتراث البلد الثقافي، الذي يجب المحافظة عليه وعدم المسّ به، لأنه إرث وطني.

في لبنان، انتشرت فكرة العلمانيّة ايضا وهي،اليوم، باتت اوسع انتشارا من ذي قبل ليس فقط في الاوساط المسيحيّة بل الاسلاميّة أيضا. نتج عن ذلك ارتفاع اصوات ليست بقيلة تطالب بفصل الدين عن الدولة وبتبني العلمانيّة كنظام للبنان، كما هي الحال في اوروبا. الوضع في لبنان، كبلد طائفيّ التركيبة، يُصعِّب تحقيق هذاالامر، خصوصًا مع وجود مكوّن مسلم في صلب عقيدتة الاسلاميّة لا يوجد انفصال بين الدين والدولة، إذ ان الاسلام هو دين دولة ودنيا وآخرة.

ولكن إذا كان الامر صعب المنال على مستوى نظام الدولة وقوانينها، فهو ليس كذلك على مستوى النفوس والقناعات الشخصيّة، إذ أنّ الكثير من المسلمين والمسيحيين لا يعدّون انفسهم مسلمين ومسيحيين بالمعنى الايماني الملتزم للكلمة، بل بالمعنى الثقافي، إذ يجاهرون علنًا بعلمانيتهم رغم انتمائهم لبيئة دينيّة او طائفيّة. هم محسوبون اجتماعيًا على بيئة تُعرَّف بأنها مسلمة او مسيحيّة.

الاكليروس في الكنيسة اللبنانيّة عاجز عن تقبّل هذه الحقيقة وإن كان عالما بها. لا زالت الرئاسة الكنسيّة تخاطب المسيحيين على افتراض انهم جميعا مؤمنين ملتزمين، والحقيقة هي بخلاف ذلك، ليس الجميع بمؤمنين ملتزمين وهذا طبيعي. قد يُخدع بعض الاكليروس بمظاهر التطوافات والزياحات وعديد الحضور في الكنائس، لكن هذه كلها ليست معيارًا للانتماء الكنسي. صحيح ان مضمون هذه الممارسات مرتبط بالايمان، لكن ذلك لا يعني ان ممارسيها يفعلون ذلك عن ايمان، ففي الكثير من الاحيان تكون هذه الممارسات مجرد مهرجان فلكلوري بطابع مسيحي، كالافراط في اظهار الرموز الدينيّة بوضع الصلبان على التلال بغاية اثبات الوجود لا اكثر ولا اقلّ. وإذا قيّد لي أن اوصّف علاقة المسيحيين في لبنان مع المسيحيّة الحقّة، لقلت، انها علاقة ثلاثيّة المستوى. المستوى الاول، هم المسيحيون المؤمنون الملتزمون بايمان الكنيسة وتوجهاتها على كافة الصعد. المستوى الثاني، هم المسيحيون الملتزمون بالايمان المسيحي لكنهم يعتبرون الكنيسة مرجعًا روحيًا لا زمنيًا أو سياسيًا. المستوى الثالث، هم المنتمون ثقافيًا الى البيئة المسيحيّة، يمارسون ممارساتها كتقليد وتراث، لا عن قناعة ايمانيّة. من المهم الاشارة هنا، اننا بهذا التوصيف لسنا بمعرض تصنيف المؤمن من غيره، فهذا الامر من شأن الله وحده الفاحص القلوب والكلى. بهذا التوصيف، انما نسعى الى قراءة الواقع الاجتماعي المسيحي لا غير.

لا تزال الكنيسة اليوم متمسكة بمقولة لبنان الرسالة. نظريًا المقولة جميلة جدًا، إنما عمليًا، أعتقد بأن المسألة بحاجة لنقاش.

تَكسب هذه المقولة قوّة معنويّة في الوجدان المسيحي لأنها صدرت عن البابا القديس يوحنا بولس الثاني، الذي كان مُلهِما للكثير من الشباب والشابات المسيحيين، وانا منهم، وقد اعتبره البعض، وبالاخص المقربين منه، بأنه كان ذا روح نبويّة، وكلام الانبياء صادق للمؤمنين. ورغم ذلك، لا يمنعنا هذا الاعتبار من حقّ مساءلة الفكرة، فمريم العذراء ساءلت الملاك الذي بشّرها عندما قالت له، كيف يكون لي ذلك وانا لا اعرف رجلاَ؟

بماذا يُعتبر لبنان رسالة؟ جواب الكنيسة بتعدديّته وعيش الحريّة فيه.

جيد جدًا. ولكن دعنا نسائل هذه المقولة. ما ميزة هذه التعدديّة بالذات دونًا عن باقي التعدديات في العالم؟ ميزتها بأنها فريدة في محيطها العربي والاسلامي، فهي مثلًا، لا تشبه تركيبة مصر وسوريا الاجتماعية ذات الاغلبيّة السنيّة ولا جمهوريّة ايران الاسلاميّة ذات الغالبيّة الشيعيّة. المسيحيون والمسلمون في لبنان هم جميعهم بطوائفهم اقليّات، وهذا صحيح. انما لا تكفي ميزة التنوّع وحدها كي يعدّ لبنان رسالة للعالم، إذ ينبغي ان يكون هذا التنوع مصدر الهام للعالم بالمآخاة والعيش المشترك والتضامن والتآزر والمحبّة المتبادلة، عندها يصبح رسالة دون شكّ. هل كلّ ما ذكرنا متحقق بين الطوائف اللبنانيّة؟ حاشا. العكس هو الصحيح. إن تاريخ لبنان الطائفي تاريخ صراعات واقتتال وصل حد الاجرام بالتصفيّة على الهويّة. أين الرسالة في ذلك؟

نأتي إلى سمة الحريّة. أين هي اليوم؟ صحافيون يعتقلون لآرائهم، أعمال فنيّة تمنع لأسباب عقائديّة دينيّة. قادة فكر وسياسيون يُغتالون لمجرد تعبيرهم عن آرائهم التي لا تناسب اصحاب الصدور الضيّقة من اتباع الشموليّة. قد يقول البعض نفهم بالحريّة انها بالدجة الاولى حريّة ممارسة الشعائر الدينيّة. جيّد. قامت القيامة على وسائل التواصل الاجتماعي ولم تقعد على اهل رميش لأنهم احتفلوا بمسيرة الشعانين، ما رأيكم بذلك؟ لا حريّة في لبنان ولا من يحزنون، وان اردنا تعداد الامثلة لسال الكثير من الحبر وشحّت الاوراق.

لا يخفى على أحد قلق بابوات روما على الوجود المسيحي في الشرق، من يوحنّا بولس الثاني مرورًا بمبارك السادس عشر وصولاً الى البابا فرنسيس الذي أعرب في ٢٠١٣ عن عدم تخيّله الشرق مهد المسيحيّة دون مسيحيّيه. لا زالت المخاوف جديّة مع تصاعد التطرّف الاسلامي في المنطقة ومع ميل الأكثريّات الطائفيّة الى الغاء الأقليّات، الامر الذي شهدناه يحصل لازيديّي ومسيحيّي العراق. المسيحيّون في تقهقر مستمر واحيانًا ممنهج. لا نريد ان يأتي يوم ونرى في لبنان كنائس تحوّلت لجوامع، كما حصل للآيا صوفيّا في تركيّا، او غطّتها الاعشاب البريّة، لأن أبناءها هجروها.

ولكن ما السبيل لمنع كلّ ذلك؟ هل باستمرار الكنيسة على المستوى الرسمي بخطابها المثالي عن لبنان الرسالة الذي لا وجود له في ارض الواقع؟ بالطبع لا. لا أحد يشكّ في ان للكنيسة وللمسيحيّين المؤمنين رسالة في لبنان وهي نشر ثقافة المحبةّ. ولكن أن يكون للكنيسة رسالة وان تكون هي الرسالة شيء، وان نجعل من لبنان، المتعدّد المذاهب والطوائف والشعوب التي لا تشبه بعضها بعضًا، رسالة، هو أمر مختلف تمامًا. في لبنان هويّات عابرة لحدوده ومرتبطة بدول اقليميّة وهذا واقع. الشيعة معظمهم مرتبط بإيران، والسنّة مرتبطون بالﻷمّة الاسلاميّة، حتى العلمانيون منهم، وهذا نجده واضحًا من خلال تايّيدهم لكل قضايا الامة الاسلاميّة، وهذا حقّ.

سياسات الدول لا تعمل وفق المبادئ بل وفق المصالح، وما يحصل لغزّة واهلها خير مثال على ذلك. لقد دعانا المسيح لنكون حذقين كالأفاعي، فلنتأمل في مدحه للوكيل الظالم، " فمدح السيّد وكيل الظلم إذ بحكمة فعل، لأن أبناء هذا الدهر أحكم من أبناء النور في جيلهم" (لو ١٦:٨). يجب ان تتبنى الكنيسة، لهذا الظرف وهذا الوقت بالذات، خطاب أبناء هذا الدهر، اي الذين يستطيعون قراءة ماجرايات الأحداث بطريقة براغماتية وعلميّة، لا بطريقة روحانيّة مثاليّة. كما فعل وكيل الظلم ليخلّص نفسه فنال مديح السيّد.

اليوم بالذات هناك شباب وشابّات، لبنانيون ولبنانيات، يطرحون مشروع الفدراليّة للبنان، منطلقين من فكرة اساس مفادها، ان نظام الحكم في اي بلد يجب ان يراعي ويحاكي التركيبة الثقافيّة والاثنيّة لهذا البلد، وبناءً عليه، وبما ان لبنان بلد متعدد الثقافات، يجب ان يكون النظام المناسب له نظاما يراعي هذه التركيبة، وافضل نظام للبنان هو النظام الفدرالي. بهذه البساطة.

في المسيحيّة نقول صوت الشعب هو صوت الله.

هل سيضحّي الاكليروس بالمسيحيّين للحفاظ على النظام وعلى لبنان، ام سيضحّي بالنظام حفاظا على المسيحيّين وعلى لبنان؟ وهل سيسمع صوت الله في شعبه، ام ان صوته وحده هو صوت الله؟