جوزف بو شرعه - الأمن الذّاتي حقّ

وفق نظريّات العقد الاجتماعيّ كان مفهوم حفظ الذّات عنصرًا أساسًا في تكوين العقود بين الجماعات المتناحرة. وقد عرفت الدّساتير الدّيمقراطيّة اللّيبراليّة أهمّيّته حتّى شرّعت حمل المواطنين السّلاح دفاعًا عن أنفسهم، وعن سلطةٍ جائرةٍ تسيطر على مؤسّسات الدّولة، وتوظّفها في خدمة أهدافٍ تتعارض مع الإرادة العامّة، فما بالكم إذا كانت السّلطة فئويّةً ذات أهدافٍ طائفيّةٍ تسخّر المؤسّسات الرّسميّة لضرب حكم القانون ومفهوم العدالة والمساواة بين المواطنين، وتحديدًا قمع جزءٍ من مواطنيها بسبب اختلافهم الثّقافيّ الدّينيّ، ومعاملتهم "درجةً رابعةً". ولكنّ هذه السّلطة الفئويّة لا تكتفي بهذا القدر بل تعمل جاهدةً لضرب حضورهم الفيزيائيّ المادّيّ، واستسهال حياتهم وكأنّهم أعدادٌ في معادلةٍ رياضيّةٍ. ولعلّ هذه السّلطة الفئويّة نست أنّ الأمن الذّاتيّ حقٌّ، لكنّ الشّعب المسيحيّ في لبنانَ لم ينسَ، ولديه الوعي السّياسيّ الكافي لتنظيم نفسه بغضّ النّظر عن نخبةٍ متردّدةٍ أو مستفيدةٍ أو مفرغةٍ أيديولوجيًّا.

استهداف المسيحيّين والتّهويل من الفتنة

إنّ تزايد الاعتداءات على المسيحيّين لأهدافٍ سياسيّةٍ واضحةٍ يشابه الاعتداءات النّازيّة على اليهود، خطاب الكراهية المتمثّل بشيطنتهم، تكسير ممتلكاتهم، خطف أفراد فاعلين في مجتمعهم. المسيحيّون في لبنان يعيشون حالة اليهود في جمهوريّة فايمار، والجميع يعلم كيف انتهت جمهوريّة فايمار والفظائع التي تلت تغيير هويّة ألمانيا... بيد أنّ المفارقة هو مقاومة الإثنيّات المسيحيّة لخيار إقصائهم السّياسيّ (وضمنًا إبادتهم). وفي هذا السّياق كلّما أراد المسيحيّ الدّفاع عن نفسه، وهو حقٌّ طبيعيٌّ وشرعيٌّ، تتصاعد الأبواق بالتّهويل بالحرب الأهليّة أو الفتنة، وكأنّ الشّعارات الطّائفيّة للأحزاب الشّيعيّة، وخطاب الكراهية والتّحريض، واعتداءات مناصريهم المنظّمة (بوغروم عين الرّمّانة "pogrom")، والإمساك بمفاصل الدّولة (تعيينات فئويّة)، وتهديد مؤسّساتها (تهديد وفيق صفا للقاضي طارق البيطار)... وعلى الرّغم من ذلك تبقى انتفاضة المسيحيّين المظلومين على ظالميهم فتنة. إذ يصبح الحقّ جريمة، والأمن الذّاتيّ الحقّ الأكبر.

ماذا يعني الأمن الذّاتيّ؟

قد يخلط بعض النّاس بين مفهوم الأمن الذّاتيّ المنظّم وبين تسليح أفراد أو جماعاتٍ غير منظّمةٍ، ما قد يدخلها في صراعٍ مع جماعاتٍ أو أفرادٍ أخرى غير منضبطةٍ. هذا نوعٌ من البروبغندا. الأمن الذّاتيّ هو تنظيم شرطةٍ أو قوًى محلّيّةٍ من فئةٍ أو جماعةٍ من المواطنين في الدّولة للاعتناء بالأمن المحلّيّ، خصوصًا بعد فشل القوى العسكريّة المركزيّة في ضبط الأمن والحفاظ على الأرواح والممتلكات، خصوصًا إذا كانت الاعتداءات تحمل أبعادًا طائفيّةً وعنصريّةً، كما هي الحال في دول الشّرق الأوسط. وطبعًا يشمل الأمن الذّاتيّ التّدريب العسكريّ الانضباطيّ لعناصرَ محلّيّة (وفي حالتنا عناصر مسيحيّة مناطقيّة) تساعد الدّرك والقوى الأمنيّة وتطمئن السّكّان، بخاصّةٍ في ظلّ لامبالاة السّلطة الفئويّة. أمّا سؤال: كيف يتحقّق الأمن الذّاتيّ؟ فجوابه: بقرارٍ مسيحيٍّ مناطقيٍّ حاسمٍ (ومؤخّرًا نجح شكلٌ مبسّطٌ من الأمن الذّاتيّ في منطقة الأشرفيّة). وفور اتّخاذ القرار الوطنيّ المسيحيّ تذلّل العقبات التّمويليّة والتّفصيليّة.

إنّ استسهال قتل المسيحيّين مردّه جبن نخبتهم الهرمة، أو تواطؤها، أو فراغها الأيديولوجيّ وتمسّكها بالطّوباويّة واللّبنانويّة ورفضها تقبّل فشل مشروعها الشّعريّ القائم على رسالة لبنان المفترضة، فيما مجتمعها يحتضر، وهي ترفض إنعاشه.