الفدراليّة والتعدديّة المجتمعيّة – مقدّمة عامّة (1)

لماذا نحن فدراليّون (1/23): الفدراليّة والتعدديّة المجتمعيّة – مقدّمة عامّة (1)

نحن فدراليّون لأسباب أربعة أساسيّة: 1) تركيبة لبنان المجتمعيّة تفترض شكلًا من أشكال الفدراليّة لإدارة تعدديّتها. نحن منتبهون إلى مسألة الهويّة لأنّنا واقعيّون، لا لأنّنا هويّاتيّون. لا نؤمن، بمعنى آخر، بتفوّق جماعة على جماعة في لبنان، أو بأيّ مكان من العالم. ولا نعمل كي تتسيّد جماعة على أخرى. قيمنا قيم التنوير، الكونيّة، الليبراليّة .2) سئمنا من المقاربات الرديئة أو الكاذبة لمسألة الهويّة. سئمنا تحديدًا ممّن يعرّف الهويّة كشكل من أشكال الصراع الطبقي، لأنّها ليست كذلك. سئمنا أيضًا ممّن يزعم إلغاء الهويّة بحجّة انتماءات كبرى قوميّة أو أمميّة أو دينيّة. كما سئمنا بطبيعة الحال من الإيديولوجيا العابرة للحدود اللبنانيّة، والمقاربة الدينيّة الأصوليّة للسياسة، واستسهال العنف السياسي كوسيلة للغلبة. بديلنا، لبناني، ليبرالي، وفدرالي. وهمّنا التخفيف من حدّة القضايا الخلافيّة والأدلجة والاستقطاب الداخلي، والتفكير بسبل انتشال بلادنا من مأساتها الحاليّة ووضعها على طريق التعافي أوّلًا، ثمّ الاستقرار المديد. 3) حظوظ ربح المعركة مع المنظومة الحاكمة ومنعها من إعادة إنتاج نفسها أفضل من خلال سلطات سياسيّة محليّة. النظام المركزي عقبة كأداء أمام التغيير في لبنان وحليف طبيعي لقوى الستاتيكو. 4) تقوم الفدراليّة على اللامركزيّة السياسيّة والإداريّة والماليّة، وهي تاليًا نظام أفضل للحوكمة وإدارة الموارد والتنمية المستدامة في المناطق. سنركّز في هذه الحلقة على النقطة الاولى، أي مسألة الهويّة المجتمعيّة، على أن نتوسّع بالنقاط اللاحقة في حلقات تالية.

نحن مع الفدراليّة كنظام سياسي، لأنّ هويّاتنا طوائفيّة كمجتمع. عندما تتشكّل هذه الهويّات –وهي حصيلة تلاقح معطيات دينيّة، وسياسيّة، وثقافيّة– يصبح من الصعوبة بمكان إلغاؤها. الأمر صحيح عندنا وفي أيّ بلاد تعدديّة أخرى. لا يستطيع واحدنا مثلًا، أن يقنع الأكراد أن يصيروا عربًا، أو العكس؛ كما لا يمكن إلغاء هويّة الأمازيغ المتمايزة مثلًا في الجزائر، أو الكاثوليك في إيرلندا الشماليّة، أقلّه ليس بالوسائل السلميّة. لأنّ الهويّة أمر حميم وعزيز على قلب الإنسان، ولا يتخلّى عنها بطيبة خاطر. طبعًا هذا لا يلغي أنّ التاريخ حافل بمحاولات الهندسة المجتمعيّة الهادفة لتغيير الهويّات بالقوّة: مثلا، صدّام حسين منع الاكراد من تعلّم الكرديّة في العراق وغيّر أسامي قراهم؛ حافظ الاسد ارتكب الأمر نفسه مع أكراد سوريا؛ وأيضًا القذّافي مع البربر. بالحقيقة، الجينوسيد الجسدي أو الثقافي هو الطريقة الوحيدة لتغيير الهويّات المجتمعيّة بسرعة. يمكن بالمقابل، بدل تغييرها والسعي إلى "تجاوزها" و"صهرها" وطنيًّا، الاعتراف بها كحقائق مجتمعيّة ليست بذاتها جيّدة أو سيئة، بل مجرّد واقع ينبغي التعامل معه وفق منطقه هو، لا وفق ما تريده له هذه أو تلك من الإسقاطات الإيدولوجيّة. الحقيقة أنّ من يتابع تطوّر مسألة الهويّة في الديموقراطيّات الليبراليّة الغربيّة يلاحظ كيف خرجت هذه الدول تدريجيًّا من منطق الدولة–الأمّة، ووهم "صهر" الشعوب، إلى رحاب القبول بالتعدّديّة المجتمعيّة، ومحاولة تنظيمها عبر شكل من أشكال الفدراليّة. أكثر من ذلك، بمقدار ما أكملت أوروبا تحوّلها الديموقراطي، بمقدار ما انفتحت أكثر على فكرة التعدديّة المجتمعيّة كبديل عن الدولة–الأمّة الجاكوبينيّة. قارن، على سبيل المثال لا الحصر، بين وضع الباسك الإسبان، في ظلّ نظام الجنرال فرانكو، ووضعهم لاحقًا بعد سقوطه وترسيخ التحوّل الديموقراطي الإسباني. يمكن هنا تلخيص الوضع بالمعادلة التالية: تحوّل ديموقراطي وليبراليّة (على المستوى السياسي والقيَمي) + تعدديّة مجتمعيّة (على المستوى البنيوي والمجتمعي) = شكل من أشكال الفدراليّة (على مستوى نظام الحكم).

ما هو صحيح بالنسبة إلى الجماعات والطوائف بالعالم، صحيحٌ في لبنان أيضًا. ليس من باب الإفراط بالقلق ولا نكء الجراح أن نسأل الآتي: هل تمكنّت دولة واحدة تعيش فيها نسب وازنة من المسيحيّين والمسلمين من تجنّب الاحتكاك الطائفي بينهم؟ هذه بعض الأمثلة التي نبغي أن تكون مدعاة تفكّر لنا: 1) قبرص انتهت الى التقسيم بعد حرب تواجه فيها مسيحيّون (يونانيّون) مع مسلمين (أتراك). 2) السودان انتهى الى التقسيم بعد حروب تواجه فيها مسيحيّون وإحيائيّون ( أفارقة جنوبيّون) مع مسلمين (عرب شماليّون). 3) إندونيسيا (المسلمة) خسرت إقليم تيمور-لست (المسيحي) بعد حرب عليه قاربت الإبادة. 4) نيجيريا (المسلمة بغالبيّتها) واجهت مشكلة سعي البيافرا (المسيحي) للانفصال عبر الإبادة الجماعيّة. 5) يوغوسلافيا انهارت كدولة بعد مجازر وحروب تواجه فيها مسيحيّون (صرب و كروات) مع مسلمين (بوسنيّين)، ذُبح فيها المسلمون خصوصًا. فكّر، على سبيل المثال لا الحصر، بمجزرة سربرنيتشا التي قتل فيها مسلّحون صرب حوالي 8000 بوسنيًّا مسلمًا عام 1995 . 6) إقليم ناغورنو–كاراباخ لا يزال محطّ صراع بين مسيحيّين (أرمن)، ومسلمين (أذريين). 7) وضع الأقباط في مصر من سيّء الى أسوأ. 8) وضع المسلمين في فرنسا وفي أوروبا عمومًا مأزوم. الأمثلة الأخرى المشابهة كثيرة.

مواضيع ذات صلة