لماذا نحن فدراليّون (3/23): الفكر القومي ومسألة الهويّة في المشرق العربي
ذكرنا في الحلقة الأولى أنّنا فدراليّون بحكم تركيبة لبنان المجتمعيّة. نزعم أنّ هذا الطرح هو، قبل أيّ شيء آخر، نزيه فكريًّا. نزعم خصوصًا أنّ الطروحات المقابلة تنطوي على قدر غير قليل من الخفّة والإزداوجيّة والنفاق على المستوى النظري، كما على مستوى الممارسة. وفي المشرق العربي، كما في أيّ مكان آخر من العالم، ما يبدأ بالكذب، ينتهي بالعنف الأهلي.
فكّر مثلًا بمنظّري القوميّة العربيّة بامتياز، عنينا ساطع الحصري وميشال عفلق. حاشى وكلّا أن يكونا طائفيّين، أليس كذلك؟ الأوّل استقى فكره من أمّهات كتب الفكر القومي الألماني، من "فيخته" بشكل خاصّ، والثاني لم تمنعه مسيحيّته من تطويب الإسلام روحًا للقوميّة العربيّة. لا كثير اهتمام عند هذا أو ذاك بمسألة الجماعات في المشرق العربي إلّا لجهة التأكيد على وحدانيّة العرب كأمّة ناجزة. طوائف؟ أقليّات؟ مجموعة ثقافيّة؟ ماهذا الكلام؟ العروبة وكفى.
باستثناء طبعًا أنّ الممارسة كانت أمرًا مختلفًا. ساطع الحصري كان وزيرًا للتربية في العراق إبّان العهد الفيصلي. كقومي عربي، كان من المفترض به ألّا يتحفّظ على بناء المدارس في مناطق يكثر فيها المسيحيّون والشيعة العراقيّون، باعتبار أنّ هؤلاء أبناء الوطن الواحد، أليس كذلك؟ ولكنّ العكس حصل. ركّز الحصري على بناء المدارس بين السنّة العراقيّين وتحفّظ على بنائها في مناطق سواهم. كتب الحصري في مذكّراته، شارحًا رفضه انتشار دار المعلّمين في الحلّة والموصل:
"وأنا لم أتردّد في الحكم بأنّ تنفيذ هذه الخطّة –إنشاء دار معلّمين في الحلة وأخرى في الموصل– يعرّض الوحدة الوطنيّة للخطر لأنّه كان من الطبيعي أن تكون الاكثريّة الساحقة من الطلّاب في الموصل من أبناء المسيحيّين وفي الحلة من أبناء الجعفريّين". (راجع ساطع الحصري، مذكّراتي في العراق، 1967، بيروت، دار الملايين، الجزء الاوّل، ص 80)
الجميل هنا، أنّ "الوحدة الوطنيّة" تتهدّد فقط لو استفاد من المدارس "أبناء المسيحيّين" أو "أبناء الجعفريّين". أمّا أن يستفيد منها سواهم، فلا مشكلة طبعًا، ودائمًا باسم العرب والعروبة. والحال أنّ علاقة الحصري بالشيعة العراقيّين خصوصًا كانت مضطّربة – هو يتّهمهم بالشعوبيّة، وبالأصل الإيراني، أيّ بأنّهم ليسوا عربًا حقًا، وهم يردّون بأنّ الرواية الرسميّة لتاريخ الإسلام التي تبّناها كوزير للتربية هي بالحقيقة النسخة السنيّة له. باختصار: أمّا وأنّ الفرس شيعة، فقد بدا للحصري أن الشيعة بالضرورة فرس، أو على الاقلّ، من ناقصي العروبة. وهناك طبعًا من يقول إنّ كراهية الحصري للشيعة لم تكن مذهبيّة، بل قوميّة؛ ولكن التفريق بين ما هو قومي، وما هو مذهبي صعب جدًّا، إن كان تعريف القوميّة يحصر من هو عربي "حقّا" بالسنّة. وعمومًا، مع أنّ الملك فيصل نفسه لم يكن طائفيًّا، فإنّ النظام الفيصلي، الذي كان الحصري منظّرًا له، حصر الشيعة العراقيّين بالهوامش، وأبقى السنّة في المتون، خصوصًا في المؤسسات الأهمّ للدولة الناشئة، أي المؤسسات العسكريّة والأمنيّة. بالشكل، لا دعوة صريحة للكراهية الطائفيّة في كتابات الحصري. ولكنّ وحدانيّة الأمّة الغالية عليه عنت بالممارسة أسبقيّة العنصر السنّي على الجميع. هذا واحد من الأسباب التي تبرّر حذرنا من النظريّات النافية للتعدديّة المجتمعيّة باسم هويّات كبرى مفترضة: تجاوز شكل الطرح باتّجاه مضمونه وممارسته، ترى الطائفيّة المتنكّرة بنقيضها.
ميشال عفلق لم يكن أفضل من الحصري. نبيل الشويري، المثقّف السوري والبعثي من الرعيل الأوّل، كان يعرف "الأستاذ" جيّدًا، بحكم الجيرة في حيّ الميدان بين عائلتي عفلق والشويري الدمشقيّتين الأرثوذوكسيّتين. في حواره الطويل مع الكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر، والذي تحوّل إلى واحد من أفضل الكتب عن سوريا المعاصرة وأغناها (سورية وحطام المراكب المبعثرة – المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، 2005)، يكشف الشويري سرًّا مثيرًا للاهتمام جدًّا عن عفلق، مفاده أنّه رفض زواج أخته ماري من أحد أنصاره، نزيه الحكيم، لأنّه مسلم. تزوّجت ماري رغمًا عن معارضة أخيها، فانقطعت فورًا علاقة عفلق بالحكيم، كما بقيت علاقة ماري بأخيها ميشال سيّئة حتّى بعد طلاقها اللاحق وعودتها إلى منزله. كيف يجتمع الإيمان الحارّ بالقوميّة العربيّة مع مقاطعة الشقيقة لانّها تزوجّت من مسلم، وهو ما رفضه عفلق "بسبب محافظته وتقليديّته" بحسب الشويري؟ وأساسًا، كيف يجتمع بناء تأسيس الحزب التقدمّي كالبعث، مع المحافظة والتقليديّة في الحياة الخاصّة؟ مجدّدًا، هنا الإزدواجيّة التي نتحدّث عنها، والتي لا نريدها منطلقًا لفهمنا لمسألة الهويّة في لبنان، واستطرادًا، المشرق العربي.
ليس الهدف من هذه العجالة تفنيد سائر نواحي الفكر القومي في المشرق العربي، أو حشره كلّه في خانة واحدة – ولا شكّ أنّ أفكار ساطع الحصري، أو ميشال عفلق، أو صلاح الدين البيطار، أو قسطنطين زريق، تظلّ على علّاتها أفضل بكثير من تهويمات أنطون سعادة الكارهة ل "السلالات المنحطّة"، أو تخرّصات تلك الحفنة من البعثيّين الأوائل الذين كتب عنهم سامي الجندي : "كنّا عرقيين معجبين بالنازيّة نقرأ كتبها ومنابع أفكارها" (راجع سامي الجندي، البعث، دار النهار للنشر، بيروت، 1969، صفحة 27). كلّ المسألة أنّنا تعبنا من الإيديولوجيا ومن إسقاطاتها القبليّة. تعبنا أيضًا من تذاكي العقائديّين ونفاقهم وطائفيّتهم المضمرة. لا نريد أن نقول علنًا بالقوميّة العربيّة، وسرًّا بتفوّق السنّة كأمّة على الآخرين كمجرّد طوائف. ولا نريد أن نجاهر بالممانعة وبفلسطين وبتحرير القدس، ونعمل سرًّا لغلبة الشيعة على سواهم. كما لم تعد مجتمعاتنا تتحمّل تجربةً كالبعث السوري، تستعمل الإشتراكيّة لضرب سنّة المدن، بحكم الكراهية الطائفيّة–الريفيّة، أو تجربة "حركة وطنيّة" تبرّر مشاركتها بالحرب اللبنانيّة بضرورة إصلاح النظام اللبناني، ثمّ تغطّي مجازر الدامور والعيشيّة ودير عشاش وسواها. ما العلاقة بين التقدّم والمجازر الطائفيّة؟ هذا بالتحديد ما نكتب ضدّه: النفاق العلمانوي شكلًا، والطائفي ضمنًا، وهو نفاق، بالمناسبة، مستمرّ إلى يومنا هذا بتنويعاتٍ وأسماءٍ مختلفة. كما لا نريد "قوميّة لبنانيّة" إن كانت تعني أسبقيّة الموارنة على غيرهم في لبنان. بالحقيقة، لا نريد القوميّات كلّها، ولا الفكر القومي. عندنا أنّ كلّ العقائد والنظريّات النافية للتعدّد المجتمعي مشبوهة لأنّها ليست نزيهة، ولأنّ جوهرها إقصائي، ولو كان شكلها نابذًا للطائفيّة. نكرّر أنّ ما يبدأ بالتذاكي، ينتهي بالخراب العميم، هو خراب بلداننا ومدننا ومجتمعاتنا في لبنان وسوريا والعراق والمشرق بأسره.
نريد بالمقابل، نزاهة فكريّة أكبر. يعني هذا ضمن ما يعنيه قبولًا بالطوائف كوحدات سياسيّة وشعوريّة، وهو ما لا يلغي بطبيعة الحال حقّ الفرد بالتمايز الحرّ عنها. ويعني أيضًا إعادة تنظيم الأنظمة السياسيّة من فوق كي تتناسب مع تركيبة المجتمع من تحت. ولهذا النوع من الأنظمة إسمًا واضحًا: الفدراليّة. لن نسميّها إتّحاديّة، مع انّها كذلك. ولن نسمّيها لامركزيّة سياسيّة، مع أنّها كذلك أيضًا. سنسمّيها باسمها (وسنحارب كي نرفع الشيطنة عنه): الفدراليّة.