لماذا نحن فدراليّون (2/23): الفدراليّة والتعدديّة المجتمعيّة – مقدّمة عامّة (2)
ليس القصد من الحلقة الأولى لهذه المقدّمة المحاججة بحتميّة "صراع الحضارات" أو ما شابه. ولا القصد طبعًا حصر صراعات الهويّة بخلافات المسيحيّين والمسلمين – الحروب الدينيّة في أوروبا بين المسيحيّين أنفسهم، أو كراهية اليهود على خلفيّة دينيّة أو عرقيّة، أو الصراعات بين المسلمين، لم تقلّ بالضرورة ضرواةً وتعقيدًا، هذا فضلًا طبعًا عن سائر الصراعات العرقيّة أو القبليّة أو الجهويّة في العالم. القصد بالمقابل هو التفكير بعلاقة المسيحيّين والمسلمين في لبنان من منظار مقارن على أمل فهم تعقيداتها والخروج من وهم الحلول التبسيطيّة. والقصد أيضًا هو الآتي: إذا لم تتمكن كلّ المجتمعات المحيطة بنا من "تجاوز" الفالق المسيحي – الإسلامي، لماذا وكيف سنتمكّن نحن؟ على أيّ أساس إمبيرقي، بمعنى آخر، يستند دعاة "تجاوز" الطائفيّة في لبنان؟ لقد حلم مثقفّون كالمعلّم بطرس البستاني بهذا "التجاوز" منذ منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا. هل حصل؟ أن نقول لا هو تحصيل حاصل – بالحقيقة، الهويّات الطائفيّة في المشرق والنعرة الدينيّة فيه أقوى من أيّ وقت سبق. فإلى متى نفتتن بالأحلام الورديّة المنفصلة عن الوقائع المجتمعيّة؟ ثمّ، لنكن واضحين: نحن نتحدّث عن أفكار يعاد انتاجها بطريقة أو بأخرى منذ 160 عامًا على الاقلّ، من دون أن يقترب المجتمع منها. ألا يرى الأصدقاء "التجاوزيّون" أنّ ثمن غياب التطابق بين إسقاطاتهم الإيديولوجيّة وحركة المجتمع المحيط بهم كان كبيرًا علينا؟
أكثر من ذلك: يمكن لدعاة الفدراليّة في لبنان أن يقولوا إنّنا نريد دولة فدراليّة كما الإمارات العربيّة فدراليّة؛ وكما أنّ في العراق ضرب من ضروب الفدراليّة. يمكن للفدراليّين أيضًا أن يذكّروا أنّ النخب المثقفة العربيّة طالبت بشكل من أشكال إعادة التنظيم الفدرالي للسلطنة العثمانيّة، يضمن الحقوق السياسيّة والثقافيّة للعرب والأتراك معًا، في ظلّ العرش العثماني، وأنّ رفض الآستانة مطالبهم ساهم مباشرةً بتوتير العلاقات العربيّة-التركيّة في العقود الأخيرة لسلطنة بني عثمان. بالمقابل، من يزعم تجاوز الطائفيّة في لبنان، أين رآه ممكنًا في العالم المحيط بنا؟ في سوريا مثلًا؟ أم العراق؟ أم البحرين؟ أم مصر؟ الأمر عينه صحيح بالنسبة إلى دعاة العلمنة: أين رأوها راسخة في منطقتنا؟ أفي تركيا، أم ... في إيران؟ من قال لهؤلاء أنّ العلمنة ستنتصر في منطقتنا لمجرّد أنّها انتصرت في أمكنة أخرى؟ ثمّ ماذا نفعل عندنا بمئات الآلاف من اللبنانيّين من الّذين تستعبد عقولهم ولاية الفقيه والخمينيّة؟ مجرّد أسئلة يفترض بمن يحاجج بالطرح "التجاوزي" لمسألة الهويّة التفكير بها. نحن فدراليّون لأنّنا ننظر أوّلًا إلى تركيبة المجتمع كما هي، ثمّ نفكّر بنظام سياسي يتناسب معها، بدل أن نصنع من تهويماتنا الفكريّة نظامًا فاضلًا، ثمّ نسعى لتغيير المجتمع كي يتناسب مع إسقاطاتنا. أثمان المراهقة الفكريّة مكلفة وقد دفعناها مرارًا. لا ضرورة لدفعها مجدّدًا.