لماذا نحن فدراليّون (4/23): بخصوص أنّ البربريّة هي البديل عن الاعتراف بالتعدديّة المجتمعيّة: العراق نموذجًا
إختلفت الأنظمة المتعاقبة منذ نشأة العراق الحديث في عشرينات القرن الماضي على الكثير، واتّفقت على رفض الإعتراف بالتعدديّة المجتمعيّة. كان الشيعة العراقيّون يعانون أصلًا من سياسات العثمانيّين الإقصائيّة، فلا يُقبل شيعي في المدرسة الحربيّة أو في وظائف الدولة إلّا نادرًا، هذا فضلًا عن وضع العراقيل أمام دخول التلاميذ الشيعة المدارس الحكوميّة. نظريًّا، أمّا وأنّ القوميّة العربيّة كانت إيديولوجيا حكّام العراق الجدد بعد انهيار السلطنة العثمانيّة التي حملت العائلة الهاشميّة رايتها، فكان يفترض ألّا يعاني الشيعة (أو المسيحيّون) من الحكم الجديد. هذا نظريًّا فقط. عمليًّا، كان معظم الإستبشلمنت الحاكم في العراق الهاشمي من خرّيجي المعاهد والإدارات العثمانيّة، فاستمرّ التمييز الطائفي ضدّ الشيعة، كأنّ شيئًا لم يكن بعد انهيار السلطنة. مثلًا، بين عامَي 1921 و1947، تعاقبت عشرون حكومة عراقيّة، من دون أن يستلم شيعيّ رئاسة الحكومة مرّة، مع أنّ الشيعة غالبيّة سكّان العراق. كان من الطبيعي في العراق الهاشمي مثلًا، أن يُنتخب نوّاب سنّة عن مناطق ذات غالبيّة شيعيّة، أو أن يخلو تمثيل العاصمة بغداد من النوّاب الشيعة، ولو اتّسع لنوّاب من الطائفة اليهوديّة. كما ندر تعيين سفراء شيعة طوال العهد الملكي، وقاربت أعداد الطلبة الشيعة المقبولين في مختلف دورات الكليّة الحربيّة الصفر. كيف يمكن لحكم "قومي" أن يبرّر إقصاء الطائفة الكبرى في بلاده عن الحكم؟ الجواب كما ألمحنا سابقًا، أنّ منظّري الحكم الهاشمي وكتّابه أفتوا بأنّ شيعة العراق جاؤوا من إيران، وتاليًا هم ليسوا عربًا. مثلًا، كتب عبد الرزاق الحصان:
"الشيعة شعوبيّون بالإجماع، فرس بالإجماع، وهم من بقايا الساسانيّين في العراق، ولا حقّ لهم في السلطة أو في تمثيل السلطة" (راجع كتاب سعيد السامرائي، الطائفيّة في العراق، مؤسّسة الفجر، 1993، صفحة 54).
طبيعي، والحال هذه، أن يتوجّس الشيعة العراقيّون من القوميّة العربيّة بصفتها إسمًا مستترا لأولويّة العنصر السنّي، وأن يعارضوا لاحقًا الانضمام إلى الجمهوريّة العربيّة المتّحدة بزعامة عبد الناصر، كي لا يذوبوا تمامًا في البحر السنيّ. وطبيعي أيضًا، أن تحفل حقبة الحكم الملكي بالمجازر ضدّ الأقليّات، من مجزرة المسيحيّين الأشوريّين (أحداث سميل، عام 1933)، الى مجزرة اليهود (أحداث الفرهود، عام 1941). وطبيعي أخيرًا، مع سقوط الملكيّة واستلام الوطني العراقي عبد الكريم قاسم ناصية الحكم، أن يلتفّ حوله الشيعة والأكراد والشيوعيّون، بينما انحاز نائب عبد الكريم قاسم، السنّي المتشدّد عبد السلام عارف، الى عبد الناصر. وبعد انقلاب 1963 وسقوط قاسم، إستلم عبد السلام عارف الحكم، لتبدأ مرحلة جديدة من سيطرة إيديولوجيا القوميّة العربيّة في العراق، وترجمتها عمليًّا إقصاء العناصر غير السنيّة فيه. والحال أنّ عبد السلام عارف ذكر لخلصائه أنّ في العراق ثلاث جماعات ينبغي استئصالها، هم الشيعة والمسيحيّون والأكراد. وكان عارف يستعمل لفظة "شعوبيّون" التحقيريّة للدلالة على الشيعة، وقيل إنّه كان يرفض تلقّي العناية الصحيّة من أطبّاء شيعة. جرى ذلك طوال حقبة الحكم العارفي (1963 – 1968) تحت وابل من المزايدات القوميّة، والأنتي-إمبرياليّة، والأنتي-إسرائيليّة يعرفها جيّدًا سكّان منطقتنا من العالم ودارسو سياساتها. ومع الإعتذار على التكرار، نكرّر: إبحث قليلًا، قليلًا فقط، خلف الشعارات القوميّة، أو التقدميّة، أو أي إيديولوجيا نافية للتعدديّة المجتمعيّة في منطقتنا، تقع بسرعة على طائفيّة إقصائيّة عزّزت استقطاب الهويّات، بإسم الخلاص منها.
وعمومًا، لم تتغيّر الأمور مع بداية فترة حكم البعث الثانية، بعد العام 1968. ومع أنّ مثقفيّن شيعة كانوا من مؤسّسي البعث –أوّل أمين عام للبعث في العراق، فؤاد الركابي، كان شيعيًّا– فقد سيطر العرب السنّة بالكامل تقريبًا على حزب البعث بعد العام 1963، وخصوصًا على جناحه العسكري. وهكذا، خلا مجلس قيادة الثورة عام 1968 من أيّ شخصيّة غير سنيّة. وبدا بسرعة أنّ ضرب المرجعيّة الشيعيّة الدينيّة هدف أساسي للحكم الجديد، كما استمرّ إقصاء الشيعة عن عماد الحكم الجديد، أي الجيش والمدرسة الحربيّة. يقول طبيب عراقي نايف شنين، كان عضوًا في لجنة الفحص الطبّي للمتقدمّين للكليّة العسكريّة:
"إن فحصًا طبيًّا دقيقًا يتعرّض له الطلّاب المتقدّمون الى الكليّة بدنيًّا وعقليًّا. ولكن عددًا من الطلّاب المتقدمين يخفقون في اجتياز فحص الأذن والحنجرة، حيث أنيطت المهمّة بطبيب خاص، يحتفظ كما يبدو بمعلومات مؤشرة إزاء الطلّاب الشيعة، فيجري استبعادهم من القبول بهذه الطريقة. وأنا بما أتحمّل من أمانة كطبيب، أؤكّد أن حالات متكرّرة وفي كلّ عام كان الطلّاب الشيعة يتعرّضون لها، ولم تكن نتائج الفحص صحيحة." (راجع كتاب حسن العلوي، الشيعة والدولة القوميّة، صفحة 184).
لا عجب، والحال هذه، أن يرفع جيش صدّام شعار "لا شيعة بعد اليوم" أثناء قيامه بسحق انتفاضة الجنوب الشيعي عام 1991. ولا عجب أيضًا من فظاظة عنف داعش ضدّ الشيعة متى علمنا أنّ قسمًا غير قليل من نخبتها جاء إليها أصلًا من ضبّاط صدّام، وتحديدًا من المخابرات الجويّة. ولا عجب أخيرًا، أن تردّ المليشيات الشيعيّة الموالية لايران الصاع صاعين بعد سقوط نظام صدّام حسين: ما يتعرّض له السنّة العرب منذ العام 2003 في الموصل، وفي غير الموصل، عنف معنوي وجسدي يقارب أحيانًا التطهير العرقي. اشتكى سنّة كثر أنّ "اجتثاث البعث" من الإدارات العامّة تحوّل عمليًّا الى اجتثاث السنّة منها. اشتكوا أيضًا أنّ الحرب ضدّ داعش استعملت تكرارًا كعذر لإحداث تغيير ديموغرافي في مناطق الثقل السنّي في العراق. ومن يدرس أحوال العراق بعد العام 2003 يعلم أنّ للمظلوميّة السنيّة فيه ما يبرّرها. سؤالنا: لو اعترف العراق بالتعدديّة المجتمعيّة بدل السعي لإنكارها طورًا باسم العروبة، وطورًا باسم الإسلام أو الممناعة أو الأنتي–إمبرياليّة، أو ما سوى ذلك من الشعارات السائدة في منطقتنا، ألم يكن ذلك أجدى للعراق وأنفع؟ تحديدًا: أليست الفدراليّة حلّا لإدارة التعدديّة المجتمعيّة العراقيّة، وماذا جنى العراق من إيديولوجيا "تجاوز" الهويّات، باسم قضايا دومًا كبرى، تتشدّق نظريًّا ب"الأمّة"، وتترجم نفسها عمليًّا بسيطرة فصيل أو قبيلة أو منطقة أو جماعة على كلّ ما عداها؟ السؤال نفسه صالح لسوريا، كما سنرى في الحلقة المقبلة. والسؤال الأخير في هذه الحلقة: تستسهل أدبيّات يسارويّة وتقدميّة مفترضة تقريع النظام اللبناني وشيطتنته لأسباب مختلفة، منها تكريس "الطائفيّة". ولكن مَن الطائفي الحقيقي؟ أهو من يقرّر، في أوجّ قوّته، الإعتراف بالواقع التعدّدي وترجمته مؤسّساتيًّا عبر نظام يتّسع له ولسواه، أو من ينفي التعدديّة المجتمعيّة من أساسها عبر طروحات انصهاريّة بالشكل، وإقصائيّة بالمضمون؟