بخصوص أنّ البربريّة هي البديل عن الاعتراف بالتعدديّة المجتمعيّة: سوريا نموذجًا

لماذا نحن فدراليّون (5/23): بخصوص أنّ البربريّة هي البديل عن الاعتراف بالتعدديّة المجتمعيّة: سوريا نموذجًا

تزعم الرواية الرسميّة للتاريخ السوري المتعلّقة بمرحلة الإنتداب الفرنسي على سوريا أنّ السوريّين تمسّكوا كلّهم بالوحدة السوريّة، بينما سعى الفرنسيّون لتقسيمهم على أساس طائفي، وأنّ السوريّين كلّهم عارضوا الإنتداب الفرنسي، إنطلاقًا من قناعات وطنيّة وقوميّة. يفوت هذه الرواية حقائق دامغة من نوع أنّ تيّارات محليّة قويّة في جبال العلوّيين وجبل الدروز ومنطقة الجزيرة السوريّة – حيث الاستيطان الكردي الكثيف، وأيضًا، المسيحي – طالبت بالإستقلال عن دمشق، وأنّ الحذر من الحكم السنّي لدى شرائح وازنة من الأقليّات السوريّة كان أقوى بكثير من معارضة الفرنسيّين. فكّر مثلًا، بما قاله حسن الأطرش، الزعيم الدرزي السوري، للسفير البريطاني عام 1945:

"الدروز، كأقليّة دينيّة، عرضة للإضطهاد الدائم في بلدان المسلمين، إن لم تتولّ قوّة أجنبيّة حمايتهم. بسبب وطأة الكراهية الإسلاميّة ضدّنا، توحدّت كلّ عشائر الجبل، وشباننا يطلبون الانتقام بقوّة السلاح. أمّا الدروز الكهول، فيحلمون بالسفر الى أرض لا يتعرّضون فيها للاضطهاد الديني" (راجع دراسة جوشوا لانديس، الشيشكلي والدروز، 1998، منشورة بالانكليزيّة على موقع لانديس الالكتروني).

حركة سلطان باشا الأطرش تمّ تأويلها بطريقة تخدم الرواية الرسميّة للتاريخ السوري. بالحقيقة، كانت العلاقة بين النخبة السنيّة الحاكمة في دمشق والنخب الدرزيّة عمومًا شديدة التوتّر. في العام 1938، مثلًا، هدّد شكري القوّتلي (الزعيم السوري الذي صار لاحقًا رئيسًا للجمهوريّة)، بإحضار الزعيم الدرزي الإنفصالي عبد الغفّار الأطرش مخفورًا بالأغلال الى دمشق. بالمقابل، إنتفض أنصار الأطرش في جبل الدروز، وطردوا ممثلي السلطة المركزيّة من الجبل، وطالبوا بقطع كلّ علاقة مع سوريا والاستقلال بالتعاون مع فرنسا. لاحقًا، في العام 1945، عاود القوتلي الكرّة، عندما ذكر أنّ الدروز "أقليّة خطيرة". إثر ذلك، هدّد سلطان باشا الاطرش بتوجيه مقاتليه إلى احتلال دمشق ردًّا على إهانة القوّتلي للدروز. والحال أنّ الدروز انقسموا قسمين، زمن الانتداب: طالب الأولّ، كما ذكرنا، بتكوين دولة درزيّة مستقلّة. أمّا الثاني، فقد رضي بالوحدة السوريّة والإستقلال، شريطة إعطاء جبل الدروز إستقلاله الذاتي. بيد أنّ شيئا من هذا لم يحصل. من جهة، توتّرت العلاقة بسرعة بين سلطان باشا الأطرش والأعيان السنّة الحاكمين في دمشق، وكان أن قاطع الأطرش احتفالات عيد الإستقلال في العاصمة السوريّة عام 1946 كإشارة لرفضه طريقة التعاطي معه ومع وطائفته. ومن جهة ثانية، خفّض الأعيان السنّة الحاكمون تمثيل الأقليّات فورًا بعد رحيل الفرنسيّين عام 1946، فهبطت حصّة المسيحيّين من 9 نوّاب الى 5، والعلويّين من 7 الى 6، والدروز من 5 الى 4. أمّا اليهود فخسروا المقعد الوحيد المخصّص لهم في المجلس. وفي العام 1953، أُلغيت الكوتا التي ضمنت تمثيل الاقليّات كليًّا، كما ألغت الحكومة السوريّة حقوقًا خاصّةً تمتّع بها الدروز والعلويّين في مسألة الأحوال الشخصيّة. وفي العام 1947، تبجّح موفد القوتلي إلى العاهل السعودي عبد العزيز بن سعود بأنّ الحكم السوري لم يكن مرّةً قويًّا تجاه الدروز كما هو اليوم، وأنّ العثمانيّين أنفسهم ما تمكنّوا من الدروز بقدر ما تمكنت منهم الدولة السورية الوليدة (راجع كتاب خيريّة قاسم، مذكّرات محسن البرازي 1947–1949، بيروت، دار الروّاد للنشر والتوزيع، صفحة 24، و37، 1994). أمّا أمين بو عسّاف، وهو من أبرز الضبّاط الدروز الذين شاركوا في عدد من الإنقلابات العسكريّة التي عصفت بسوريا اعتبارًا من العام 1949، فكتب من جهته أنّ الرأي العام في جبل الدروز:

"لم يكن يشعر أنّ دمشق عاصمته، وأنّه جزء من الأمّة العربيّة العظيمة، لأنّه لم يلقَ الّا العداء والكراهية من كلّ من يحيط به." (راجع أمين بو عسّاف، ذكرياتي، صفحة 15، لا يوجد دار نشر، 1996).

العلاقة بين الأعيان السنّة والعلويّين لم تكن أفضل. هكذا وصف أوّل مدير سوري لشركة "الريجي" أحمد نهاد السيّاف موقف السنّة من سكّان الساحل السوري تجاه العلوّيين، أبناء الجبل:

"فعامّة الناس في المدينة تنظر بحذر وريبة إلى الجبل (يقصد جبل العلويّين) كأنّه غابة غيلان، إنسانه فردٌ قذرٌ يمثّل الخيانة والعمالة والإلحاد، نظرة شملت الجبل متخطية سليمان (المرشد)، معتبرة المدينة رمز الفداء، ومن حقّها استباحة الجبل عرضًا ومالًا باعتباره مركز لتسويق الغواني والجاريات، وكأنّ ذلك حكم أزلي جعل أبناء المدن سادة، وسكّان الجبل عبيدًا وجواري". (راجع مذكّرات أحمد نهاد السيّاف في كتاب محمّد الباروت، شعاع قبل الفجر، مذكّرات أحمد نهاد السيٌاف، صفحة 171، لا يوجد دار نشر، 2005).

وعلى هذه الخلفيّة من الحذر المتبادل، أعدمت الحكومة السوريّة عام 1946 سليمان المرشد، الزعيم العلوي الأكثر نفوذًا آنذاك، ثمّ عرّضت مناصريه العلويّين لعقوبات جماعيّة قاسية. هكذا علّق منافس المرشد على زعامة العلويّين آنذاك، محمدّ بك جنيد، على خبر الاعدام:

"أشعر بالأسى كزعيم علوي أنّنا لم نتمكّن من توحيد صفوفنا في مواجهة الحكومة. بالنتيجة، تمكنّت الحكومة من كسرنا (أي زعماء العلويّين) الواحد تلو الآخر. أساسًا، كسروا آل كنج؛ الآن قتلوا المرشد؛ غدًا سيفتكون بآل عبّاس، وهكذا. من الصعب الوصف كم يكرهنا مسلمو الداخل السوري". (راجع أطروحة كورت لي مندهال عن النزعات الانفصاليّة في جبال العلويّين إبّان الإنتداب الفرنسي على سوريا، صفحة 236، جامعة تكساس– أوستين، 1991).

ومن يهتمّ بدراسة الدور السياسي للضبّاط السوريّين، يعلم أنّ الضابط العلوي محمّد ناصر، قائد سلاح الجوّ، تزّعم فئة من الضباّط العلويّين في الجيش خطّطوا للإنقلاب على حكم أديب الشيشكلي، قبل أن يدبّر الأخير اغتياله، ثمّ يعيّن الضابط السنّي رشيد الكيلاني مكانه عام 1950. ومن يقرأ عن تفاصيل اغتيال رئيس أركان الجيش السوري عدنان المالكي عام 1955 على يد الرقيب العلوي يونس عبد الرحيم (قومي سوري) يعلم أنّ الأخير كان مقتنعًا أنّ المالكي سنّي كاره للعلويّين ومنحاز ضدّهم في تعيينات الجيش وترقياته. ومن المعلوم أنّ المتّهمين الآخرين الّذين حوكموا بمقتل المالكي، عنينا فؤاد جديد وبديع مخلوف وعبد المنعم دبوسي، كلّهم من العلويّين.

ليس القصد في هذه الحلقة تقديم استعراض عام للعلاقة بين الطوائف في سوريا المعاصرة، بقدر ما هو المحاججة بما يأتي: منذ انقلاب البعث عام 1963 في سوريا، وحركة حافظ الأسد "التصحيحيّة" عام 1970، يذوق أهل السنّة من العذاب والقتل ألوانًا. لا ضرورة للتذكير هنا بأهوال لم تبدأ مع مجزرة حماة عام 1982، ولم تنته مع مجزرة الغوطة بالشام عام 2013. ما تعرّض له السنّة على يد آل الأسد لم تتعرّض له جماعة أخرى في المشرق العربي من قتل جماعي وهوان. وقبل ذلك، كما أسلفنا، لم يكن وضع الأقليّات في ظلّ الحكم السنّي مريحًا. هل قدرنا أن تكون طوائفنا في هذه المنطقة من العالم إمّا قاتلة أو مقتولة؟ إن كان الجواب أن لا، فينبغي الخروج من النفاق والولدنة الفكريّة باتّجاه التفكير بواقعنا المجتمعي كما هو، لا كما نريد له أن يكون. استطرادًا: ما هو الإدعاء الإيديولوجي الذي استند عليه "الحكم الوطني" (أي حكم أعيان السنّة)، منذ الاستقلال حتّى الستّينات؟ مزيج من القوميّة العربيّة والوطنيّة السوريّة "العابرة" للطوائف. وما هو الإدّعاء الإيديولوجي الرسمي لحكم آل الاسد؟ مجدّدًا، مزيج من القوميّة العربيّة والوطنيّة السوريّة "العابرة" للطوائف. كلّنا يعلم ما آلت إليه الأوضاع في سوريا بعد قرنٍ تقريبًا من الكذب والكذب المضاد. لو توقّفت النخب السوريّة عن التهريج، واعترفت بتعدّديّة سوريا المجتمعيّة، ثمّ فكّرت بنظام يعكس التعدديّة المجتمعيّة على المستوى المؤسساتي، ألم يكن هذا أجدى لسوريا وأنفع؟ لهذا النظام إسمٌ شديد الوضوح: الفدراليّة.

مواضيع ذات صلة