هشام بو ناصيف
من المبكر التنبّؤ بنتيجة الأزمة الأوكرانيّة؛ نعلم ما فعله الجيش الروسي في غروزني، والقلق على كييف مشروع. يبقى أنّ نتائج المغامرة الأوكرانيّة إلى الآن غير مشجّعة بالنسبة للنظام الروسي. هناك، من جهة، التعقيدات الميدانيّة للغزو. وسواء نتجت هذه عن سوء التخطيط الروسي، أو بسالة المواجهة الأوكرانيّة، أو المساحة الجغرافيّة لبلاد يوازي حجمها فرنسا، الواضح أنّ المسألة ليست نزهة عسكريّة. وهناك، من جهة أخرى، ردّ الفعل الغربي، وأهمّ ما فيه قرار الحكومة الألمانيّة تخصيص أكثر من 2 في المئة من موازنتها للانفاق العسكري. ثمّ هناك، أخيرًا، العزلة الدوليّة الواضحة لروسيا. المجر وتركيا لاعبان صغيران في صراع الأمم، ولكنّ موقفي فكتور أوربان ورجب طيّب أردوغان ممّا يجري مؤشّران أنّ حتّى "الرجال الاقوياء" تلكّؤوا عن دعم عرّابهم في العالم؛ من باب أولى أنّه لا يمكن لديموقراطيّات العالم أن تنحاز لموسكو. وإن كان الكرملين عوّل على تحقيق نصر سريع كما فعل سابقًا في جورجيا أو شبه جزيرة القرم، فالحسابات لم تصب هذه المرّة، أقلّه الى الساعة.
الحال أنّ دارسي الأنظمة الأوتوقراطيّة يعلمون أنّ هزائمها أكثر من انتصاراتها في السياسة الخارجيّة. على سبيل المثال لا الحصر، فكّر بمغامرات النظام الناصري في سيناء عام 1967، واليمن؛ أو صدّام حسين في ايران، ثمّ الكويت؛ أو القذّافي في تشاد؛ أو نظام جنرالات البروسيسو الارجنتيني في الفالكلاند؛ أو فكّر بتعثّر ستالين في فنلندا عام 1939؛ أو بخسارة نظامين ألمانيّين أوتوقراطيّين لحربين كونيّتين؛ أو بهزيمة اليابان الامبراطوري في آسيا. هذه مجرّد أمثلة من عشرات أخرى. وليس القصد هنا أنّ الديموقراطيّات منصورة دومًا (هذا لم يكن صحيحًا في فيتنام، أو العراق، أو أفغانستان)؛ ولكنّ احتمالات التهوّر الاستراتيجي الديموقراطي، إن صحّ التعبير، أقلّ عمومًا من المغامراتيّة التوسعيّة للأنظمة الأتوقراطيّة؛ وهزائم الديموقراطيّات، في المجال الخارجي، أقلّ من هزائم أنظمة "الرجال الأقوياء". لماذا؟
يمكن هنا التفكير بالمعطيات التالية:1) يصل الرجال الأقوياء الى الحكم عبر انقلابات، أو انتخابات وهميّة، ويخشون خسارة السلطة بالطريقة عينها. تاليا، يحرصون على تعيين قادة عسكريّين وأمنيّين لا يهدّدون استمراريّتهم بالحكم، بغضّ النظر عن كفاءتهم. فكّر مثلا بتعيين جمال عبد الناصر لعبد الحكيم عامر وزيرا للدفاع، وابقائه في منصبه، مع انّ أزمة السويس عام 1956 ظهّرت مبكرا انعدام كفاءته كقائد عام الجيوش المصريّة. وفي كلّ مرّة تتعارض مقتضيات أمن النظام مع مقتضيات الأمن القومي، يمكن الاتكّال على طغاة العالم لتفضيل الأولى على الثانية. باستثناء، طبعا، أنّ ما يصلح للحفاظ على الحكم لا يصلح بالضرورة لبناء ماكينة قتاليّة فعّالة، واداء جيوش الأنظمة الاوتوقراطيّة رديء عموما. 2) استطرادا للنقطة الأولى، مخابرات الانظمة الاوتوقراطيّة تنشغل بمعارضي النظام في الداخل أكثر من أعداء البلاد بالخارج. هذا بدوره ينعكس سلبا على نوعيّة المعلومات التي يمكن للأجهزة أن تقدّمها لصنّاع القرار الذين غالبا ما يبنون حساباتهم عند الازمات على معطيات مغلوطة. وبخلاف الصور الشائعة عن قادة وحكّام تتلاعب بهم مخابراتهم، غالبا ما يكون العكس صحيحا، بمعنى أنّ الأجهزة عموما تخضع للأنظمة، لا العكس. وتصل درجة الخضوع أحيانا الى حدّ اسماع صنّاع القرار ما يرغبون بسماعه حصرا، ولو كان غير دقيق، تفاديا للأسوأ. هذا ما يفسّر لماذا ظلّ هتلر يحرّك حتى الأيّام الاخيرة في البونكر جيوشا موجودة على الورق فقط، ولماذا بقي صدّام حسين مقتنعا حتّى النهاية أنّ الغزو الأميركي للعراق يتعثّر. 3) للرجال الأقوياء عموما خصائص نفسيّة ترفد صعودهم السياسي، أهمّها القابليّة النفسيّة للمجازفة، والقرارات التي تستند أكثر الى حدس المقامر منها الى التحليل الحصيف لعلاقات القوّة. واذ تنجح المجازفة مرّات، يتحوّل الزهو بالنفس الى نرجسيّة، وانغلاق ذهني على أيّ معطى لا يتماشى مع ما يرغب صانع القرار بسماعه. مثلا، من قرار هتلر اعادة تسليح ألمانيا عام 1935، الى استعادة اقليم السار في العام نفسه، الى الانشلوس مع النمسا عام 1938، الى الاستيلاء على تيشكوسلوفاكيا عام 1939، كانت كلّ القرارت الخارجيّة للفوهرر مغامرات غير محسوبة العواقب، عارضها جنرالاته، وتكلّلت بالنجاح. ثمّ كانت كما هو معلوم مجازفة غزو الاتّحاد السوفياتي، أي لعبة القمار الأخيرة، والقاتلة. ومن الصعب ألّا يأمل واحدنا أن تكون محاولة ابتلاع اوكرانيا لبوتين ما كانته بارباروسا لهتلر، أي المجازفة التي تأتي بعد سلسلة من النجاحات، قبل أن تتحوّل الى الاخفاق الأعظم، والنهائي.
تكرارا، من الصعب التنبّؤ اليوم بما سيجري. يمكن بالمقابل التعويل على ما يلي: الرهان الاستراتيجي على أنظمة "الرجال الأقوياء" عموما خاسر.