زحلة والفدراليّة (2)

إدمون الياس بخّاش

ما هي المعطيات التي تجعل من مدينة زحلة أرضيّة خصبة لتقبّل فكرة الفدراليّة؟

المُعطى الأول: الزحليّ منفتحٌ على كلِّ جديد

تعدُّ زحلة من المدن الحديثة النشأة. يعود تاريخ تأسيسها بحسب المؤرّخين إلى العام 1711. فهي مدينة تمّ إنشاؤها بإرادة واعية من أبنائها من جهة وبتقاطع الظروف السياسيّة من جهة أخرى، والتي ليس المجال متاحًا هنا للتوسّع فيها. فإذا أردنا أن نقارب ذاك الحدث بحدث مماثل من حيث الشكل في زمننا الحاضر، فسنعطي مثال مدينة دبي، الحديثة النشأة أيضًا والتي أصبحت من أهم المدن السياحيّة والمراكز التجاريّة في الخليج العربيّ إن لم يكن في المنطقة بأسرها. فزحلة ومنذ تأسيسها، وبالأخصّ مع نشأة لبنان الكبير، تطوّرت لتصبح مدينة عصريّة تقارع العاصمة بيروت في الأهميّة الاقتصاديّة والسياحيّة والثقافيّة، وكلّ ذلك لم يكن ممكنًا لولا انفتاح الزحليّين الفطريّ على كلّ جديد من الأفكار والصناعات والمشاريع. وفكرة الفدراليّة السياسيّة وإن لم تكن جديدة من حيث الطرح إلّا أنّ إعادة طرحها في هذا التوقيت وفي خضمّ المرحلة المفصليّة التي يمرّ بها لبنان هو بحدّ ذاته الحدث الجديد، والزحليّ، كما قلنا، منفتح بالفطرة على كلّ جديد.

المُعطى الثاني: زحلة هي أوّل جمهوريّة ديموقراطيّة في الشرق

كان ذلك من 1825 إلى 1858. ضمن هذه الحقبة كانت زحلة مستقلّة في إدارة شؤونها دون الانفصال الكيانيّ عن لبنان الإمارة وعن السلطنة العثمانيّة، وقد أنشأ الزحليّون مجلس شورى لحكم المدينة تؤخذ فيه القرارات المهمّة بالإجماع. وكان المجلس يتألّف من العائلات الزَحليّة الكبيرة أو ما يُعرف اصطلاحًا لدى الزحليّين بالعائلات السبع، "العِيَل السَبعَة" (أبو خاطر، غرّة، المعلوف، بريدي، جحا، مُسلّم، والحاج شاهين). وتجدر الإشارة إلى أنّه كان لزحلة علمها الخاص، والذي لا يزال ليومنا هذا، وهو باللونين الأحمر (رمز الشهداء) والأخضر (رمز الحياة والخلود) على حربة يعلوها صليب (رمز السلام، وزحلة هي دار السلام)، ونشير إلى أنّه العلم الوحيد في الشرق حينها الذي كان يُمثِّل مدينة بأسرها، لا حزبًا أو طائفة كما كان الحال مع باقي الأعلام. إنّ فكرة الحكم الذاتي متأصّلة في الوجدان الزحليّ، أهل زحلة لا زالوا يفتخرون بعَلَمهم الذي يمثّل مدينتهم، فتراه مرفوعًا في القصر البلديّ وفي المجالس الكبرى وفي البيوت، وستصادف أكثر من صورة لزحلة على مواقع التواصل الاجتماعيّ، شاركها أصحابها مع تعليق مكتوب فيه "جمهورية زحلة المستقلّة". أمّا إذا نظرنا إلى آليّة الحكم الذاتي حينها لاستطعنا القول إنّ زحلة ليست أوّل جمهوريّة ديموقراطيّة في الشرق فقط، بل هي أيضًا أوّل شكل للفدراليّة فيه.

المُعطى الثالث: زحلة هي عاصمة الكاثوليك في الشرق

وإن كانت هذه واحدة من الألقاب العديدة التي تطلق على المدينة نظرًا لغالبيّة الكاثوليك فيها، إلّا أنّ زحلة تحتضن نسيجًا اجتماعيًّا متنوعًا على صعيد القضاء، ففيها المسيحيّون على اختلاف طوائفهم كذلك المسلمون وجميعهم ممثلون بمرجعيّات دينيّة وسياسيّة. زحلة بطابعها المسيحي تعيش بتناغم وتفاعل مع محيطها بشكل فعّال فهي الملتقى للجميع في القضاء لا بل في البقاع أيضًا. وإن كان واحدٌ من مظاهر الفدراليّة هو التنوّع في الوحدة، فهو من المؤكّد الأمر المحقق بين زحلة ومحيطها.

المُعطى الرابع: الهويّة الزحليّة

إذا أردتُ أن أجسّد الهويّة الزحليّة، فهي مزيج من البطولة والعنفوان والصلابة والانفتاح. فالبطولة هو الصيت الذي اكتسبه الزحليّون في المعارك التي شاركوا فيها عبر التاريخ وأظهروا فيها بأسًا شديدًا غالبًا ما كان سببًا أساسيًا في تغيير مجرى الأحداث، "زحلة يا دار السلام فيكي مربى لِأسودي"، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر معركة زحلة في 1981 والتي صمدت فيها المدينة لمدّة ثلاثة أشهر، لتخرج منتصرة على جيوش جرارة ولتساهم في وصول الشيخ بشير الجميِّل إلى سدّة رئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة. والعنفوان هو الشعور المتأتّي من الوعي لهذا التاريخ البطوليّ المجيد، "زحلة النِجم اللي ما بينطال" مضافًا إليه البعد الثقافي للمدينة والّذي يتمثّل بتسميتها مدينة الشعر والخمر، وزحلة أنجبت كبارًا في الشعر والأدب والسياسة والصحافة، يكفي أن نذكر كبير لبنان سعيد عقل. ولزحلة حصّتها في إنشاء دولة لبنان الكبير، فقد أعلن الجنرال غورو في 3 آب 1920 ومن أوتيل قادري الكبير ضَمَّ الأقضيّة الأربعة الذي مهّد لإعلان لبنان الكبير. أمّا الصلابة فهي نابعة من البيئة الطبيعيّة، ما بين السهل والجبل، فالزحليّ يباشر الأرض ليستمر، ويستند على الجبل للصمود، الأمر الذي ساهم في أن يكون صلبًا كصلابة بيئته. أمّا العامل الأهمّ فهو الانفتاح. في زحلة أنت "يا ديني" والدين هو أقرب ما يكون إلى وجدان الإنسان. من السهل جدًّا أن تصبح زحليًّا، يكفي أن تعبِّر عن انفتاحك ورغبتك بأن تكون واحدًا من أهالي زحلة حتى تنال حقّ الانتماء إليهم شرط التنازل عن أيّ عصبيّة تملكها، أطائفيّة كانت أم مذهبيّة أم دينيّة أم عرقيّة، ففي زحلة لا تمييز بين زحليّ وآخر، وحيّ السيدة ذات الغالبيّة السريانيّة من الأصول المردينيّة (نسبة لمدينة مردين في تركيا) خير دليل على هذا الأمر. هذا الانفتاح مردّه إلى أنّ كلّ الزحليين تعود أصولهم لخارج زحلة فكلّهم وافدون إليها إمّا من سوريا أو من بعلبك ورأس بعلبك أو من الجبل، لأنّ زحلة حديثة المنشأ كما ذكرنا. هذا الانفتاح يُسهّل الانخراط في الفدراليّة ويساهم في التفاعل معها.

هذه المعطيات الأربعة ليست الوحيدة التي نستطيع ذكرها أو تعدادها، لكنّني أعتقد أنّها تشكّل الأرضيّة الصلبة التي يمكن البناء عليها والباب الممهّد لنشر الفكر الفدرالي ومشروع الفدراليّة في لبنان انطلاقًا من مدينة زحلة. لما لا!