غدًا... وراء العازل

ايلي خطّار

سرقت النخب التي حكمت لبنان بعد الحرب المال العام أوّلًا، ثمّ انقضّت على ودائع اللبنانيّين في المصارف. طبيعي جدًّا، في خضمّ المنهبة الكبرى التي استمرّت لعقود، ألّا تكون مسائل كالعدالة الاجتماعيّة، أو توزيع الدخل، أو تنمية الأرياف، على جدول الأولويّات. أن نقول إنّ هذه النخب أخفقت بالدفاع عن مصالح اللبنانيّين الحقيقيّة تحصيل حاصل؛ ولكن هناك ما هو أكثر: الأكيد أنّها لن تتصرّف بطريقة مختلفة لو حصلت على ثقة اللبنانيّين مجدّدًا في الانتخابات القادمة. ليس صعبًا التنبّؤ بما سيأتي لو تابعت البلاد مسيرتها الانحداريّة، خصوصًا لجهة استكمال انهيار الطبقة الوسطى، وسحق الطبقة الفقيرة، واستفحال البطالة، وتفشيّ العوز بما يهدّد بتقويض التماسك الاجتماعي.

ولعلّ ما يراكم الخيبات هو اقتناع عامّة الناس أنّ الدولة لا تريد تحقيق النهوض، أو أنّها بأحسن الأحوال أعجز عن إيجاد الحلول وطمأنة المواطنين بأنّ السياسات العامّة معنيّة فعلًا بهم. إنّ موجة الاحتجاجات الشعبية في لبنان مرتبطة مباشرة بفشل سياسات التنمية، بل بغيابها أساسًا، لاسيّما تلك المتعلّقة بتأمين فرص العمل، وسدّ الثغرات الهائلة في تغطية الحماية الاجتماعيّة، بحيث أنّ نسبة كبيرة من الناس لا تستفيد من تقديمات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ولا تحصل تاليًا على الرعاية الصحيّة الضروريّة. وبالنسبة إلى آخرين، يؤدّي غياب حدّ أدنى من الدخل إلى تدنّي مستويات التغذية والرعاية الصحيّة والتعليم، ممّا ينعكس سلبًا على قدراتهم الإنتاجيّة. وما يجدر ذكره هنا هو أنّ الحماية الاجتماعيّة، بما هي استثمار في البشر، تفعّل مشاركة الناس بسوق العمل، وتعزّز إنتاجيّتهم، كما تحميهم ولو نسبيًّا من التقلّبات الاقتصاديّة المحيطة بهم.

أمّا وقد وصلت أحوالنا إلى ما وصلت اليه، فشرط استنهاضنا الشارط هو تجنّب الاستسلام والشعور بعدم الجدوى المنتشر بين الناس، وتحويل النقمة التي تثيرها النخبة الحاكمة إلى فعل سياسي وراء العازل. للتذكير فقط: مرّت سنتان ونصف على انفجار أزمتنا، دون أن تتوقّف إلى الساعة الصراعات على ما بقي من كعكة السلطة، ودون وضع خطّة إصلاح، أو تصوّر لإعادة هيكلة القطاع المصرفي على سبيل المثال، دع عنك الانشائيّات والتذاكي الذي اعتدنا عليه، وسئمناه. مطلوب من الناخبين ألّا ينسوا من أفقرهم، ومن حال بينهم وبين الحدّ الأدنى من عدالة اجتماعيّة هي من حقّهم كمواطنين. مطلوب أيضًا التفكير بمرشّحين قادرين على وضع خطط التنمية المستدامة والسياسات العامّة الرشيدة – أي كلّ ما كان غائبًا بالمرحلة الماضية – ودعم وصولهم إلى الندوة البرلمانيّة. وإن كانت الأولويّة المطلقة تبقى للمعركة السياديّة، ولاستعادة حقّ الدولة الحصري بالسلاح على أراضيها، فينبغي التفكير أيضًا بنخب جديدة تأخذ المسائل الاقتصاديّة – الاجتماعيّة على محمل الجدّ، بدءًا بتخفيض الفقر، وتحفيز النموّ الحقيقي، ورفع مستوى الاستثمارات بالقطاعات الحيويّة.

ولوقت طويل، هربت النخب الحاكمة من مواجهة الأوضاع كما هي عبر الاستدانة؛ نعلم تمامًا الى أين أوصلتنا ذهنيّة الترقيع على الطريقة اللبنانية. لقد حان الوقت لمعالجة الاسباب الحقيقيّة لتلك الأزمات بدءًا بمعاقبة المتورّطين فيها عبر التصويت ضدّهم. تستطيع الانتخابات المقبلة أن تكون محطّة أولى في مسيرة الاستنهاض والتعافي، أو خطوة إضافيّة صوب تعميق الانهيار. الخيار لنا كمواطنين وناخبين.