اجترار الخواء: بخصوص تسليع حرب زحلة

هشام بو ناصيف

كان ضروريًّا أن يحارب اللبنانيّون حافظ الأسد في زحلة، وفي كلّ منطقة لبنانيّة أخرى غزاها. مفهوم تمامًا أن يعتدّ أهل المدينة بصمودهم، وأن يستعيد المقاتلون اللبنانيّون الشجعان بفخر ذكرياتهم عن حرب زحلة. ما بات ممجوجًا، بالمقابل، استعمال هذه المحطّة من الحرب دوريًّا بإطار التحشيد الحزبي، والذي بلغ هذه الأيّام درجات غير مسبوقة لأسباب انتخابيّة واضحة.

يمكن قول الكثير في نقد الأحزاب اللبنانيّة، ولكن المسألة الأساس هذه: أزمة لبنان أزمة نظام، ولكنّ حزبًا واحدًا لا يقدّم تصوّرًا لمعالجتها. هذا سيّئ بما يكفي، ولكن هناك أسوأ: هناك قوى قدّمت فعلًا تصوّرًا واضحًا لإدارة التعدديّة اللبنانيّة، ثمّ رمته لاحقًا كأنّه لم يكن. بالحقيقة، أثبتت التجارب تلو الأخرى في العالم أنّ المجتمعات التعدديّة لا يمكن أن تدار مركزيًّا بنجاح. بهذا كان مَن طرَح الفدراليّة كحلّ للمسألة اللبنانيّة على حقّ تمامًا، بيد أنّه عاد وتخلّى عنها دون أن يوضح تمامًا ما البديل. باستثناء طبعًا أنّ "البديل" شديد الوضوح: تسليع محطّات الحرب، فضلًا عن استسهال المحازبين الانخراط بالمعارك السخيفة على مواقع التواصل الاجتماعيّة حول من كان "البطل الحقيقي" في زحلة، ومن فرّ من المعركة، وسائر المعزوفات المشابهة.

أشعر بذهول عندما أرى فتية ولدوا بعد الحرب بعقد أو عقدين يستعيدون خلافات الأجيال التي سبقتهم، ومعاركها التي هي، بالحقيقة، صراع نخب على السلطة يتمّ تصويرها للمحازبين كخلافات حول القضيّة والمصلحة العامّة. ويتحوّل الذهول إلى قنوط عندما أقارن، لا محالة، بين هذا النوع من "النقاشات"، وحوارات بين طلّاب أستمع اليها أحيانًا، أو أديرها، في الجامعة حيث أعمل. ليس كلّ طالب هنا في كاليفورنيا مشروع غايتانو موسكا أو صامويل هانتغتون؛ يبقى أنّ أحدًا أقلّه لا يصرع رأسنا ورأسه ببكائيّة لا تنتهي عن "القائد الشهيد جون كيندي"، أو عن ذكرى معركة غيتسيبرغ المجيدة، أو ما شاكل.

كلّ ما نعرفه عن تجربة "كهرباء زحلة" يفيد أنّها ناجحة عمومًا. لم لا، تاليًا، "جامعة زحلة" (بدل الجامعة اللبنانيّة)؟ ووزارة الاقتصاد الزحليّة (بدل الوزارة المركزيّة الحاليّة التي نعلم أنّها موجودة، دون أن نعلم ما تفعل تحديدًا)؟ ولم لا، خصوصًا، صرف الضرائب التي تدفعها زحلة في زحلة نفسها، بدل إرسالها إلى المركز، ومن هناك إلى الجيوب العميقة (جدًّا) للنخب الحاكمة؟ سيكون كلّ ما سبق أنفع للمدينة بطبيعة الحال، باستثناء أنّ كلّ ذلك يفترض عملًا، وفريقًا، وخطّة، وقبل أيّ شيء آخر، قضيّة. أمّا وأنّ كلّ ما سبق لم يعد موجودًا، ماذا يبقى لشحذ الهمم؟ الجواب: تسليع التضحيات في الحرب اللبنانيّة، ومنها تضحيات أهل زحلة والمقاتلين الذين حاربوا فيها. بهذا يجتمع التهريج مع المأساة، ويحتار واحدنا، إذ يراقب مشهد اضمحلال مجتمعه من عام الى آخر، بين الضحك، والعويل.