جان نمّور
لبنان هو ضحيّة موقعه الجغرافي، فهو لم يعرف الاستقرار إلّا في فترات متقطّعة، نظرًا إلى أنّ الحياة السياسيّة اللبنانيّة تتأثّر بشكل قوي بعوامل خارجيّة دوليّة وإقليميّة، وذلك بسبب هشاشة نظام الحكم المركزي على مستوى المؤسسات السياسيّة في مجتمع متنوّع على مستوى البنية المجتمعيّة. فلا يمكن، بالتالي، إدارة التنوّع إلّا بمساعدة الخارج و/أو راعي إقليمي بمثابة وسيط/أو حكم. نحن اليوم في العام 2022، والصراع الإقليمي على أشدّه، خصوصًا بين السعوديّة وإيران. ترجمة الصراع الإقليمي عندنا فرزت مجدّدًا صراعًا طائفيًّا حادًّا، وأزمة حكم مستمرّة منذ العام 2005 على الاقلّ. وهذا عود على بدء: ففي كلّ مرّة تتوتّر الأوضاع بالإقليم، ينقل هذا الإقليم التوتّر إلى لبنان. تاليًا، من مصلحة لبنان فكّ الارتباط معه قدر الإمكان، كي يتمكّن من الاهتمام بمشاكله الداخليّة الكثيرة وإعادة هيكلة الدولة على كافّة الأصعدة. الحياد، بمعنى آخر، حاجة حيويّة لبلادنا.
والحال أنّ فكرة الحياد ولدت في لبنان قبل ولادة لبنان الكبير نفسه. فجبل لبنان بقي لفترة طويلة يتمتّع باستقلال ذاتي ومحايد عن مشاكل المنطقة، وكأنّ التاريخ يعلّمنا أنّ الحياد والاستقلال شرطان أساسيّان يتكاملان في هذه البقعة من الأرض. وفي هذا الإطار، نذكر بعض المحطّات على سبيل المثال لا الحصر:
1) في تمّوز من العام 1920، طالب مجلس إدارة متصرِّفيّة جبل لبنان بحياد لبنان في علاقاته الخارجيّة، بحيث "لا يُحارِب ولا يُحارَب ويكون بمعزلٍ عن كلِّ تدخُّلٍ حربي".
2) إنّ فكرة الميثاق الوطني سنة 1943 بين بشارة الخوري ورياض الصلح تحمل في ثناياها مقاربة جديدة للبنان قائمة على الحياد تحت شعار: "لا شرق ولا غرب".
3) فكرة الحياد فرضت نفسها بعد أحداث 1958 وهي من أهمّ الأسس التي ارتكز عليها عهد الرئيس فؤاد شهاب الذي حقّق العديد من الإنجازات الوطنيّة على صعيد بناء الدولة وهذا ما نحتاج إليه في هذا الفترة بعد التدمير الممنهج لها. وفي سنة 1961 انضمّ لبنان لكتلة دول عدم الانحياز، هذا الموقف السياسي يعبّر عن رغبة بالحياد تجاه سياسة المحاور.
نستخلص ممّا تقدّم أنّ فكرة الحياد شكّلت ملجأً في الأزمات الوطنيّة. طبيعيٌّ تاليًا أن تعود اليوم على أثر المشاكل السياسية الحادّة التي نعيش فيها والتي انعكست علينا كواحدة من أسوأ الأزمات الاقتصاديّة بشهادة البنك الدولي. أمام هذا الواقع، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف ننتقل إلى دولة محايدة؟
للجواب على هذه المسألة يقتضي مقاربة الموضوع من الناحيتين القانونيّة والسياسيّة. وأمّا الحياد كمفهوم قانوني، فهو يفترض اعتماد آليّات منها إعلان حياد دولة على أثر توقيع معاهدات لإنهاء الحروب كما هو الحال بالنسبة إلى سويسرا؛ وبالنسبة إلى النمسا، فقد تمّ توقيع معاهدة لإنهاء الحرب ومن ثمّ تعديل الدستور للتأكيد على مبدأ الحياد؛ وأمّا تركمانستان، فقد أعلنت حيادها سنة 1995 وقد صدر قرار عن الأمم المتّحدة للتأكيد عليه. وبالنسبة إلى لبنان، فمن الأفضل اعتماد الآليّة المعتمدة من قبل تركمانستان بتعديل الدستور وفقًا للآليّات المحدّدة وصدور قرار عن الأمم المتّحدة بهذا السياق.
سياسيًّا، يمكن اعتماد الحياد عبر التموضع السياسي للدولة اللبنانيّة بإعلان حيادها وباعتماد سياسية خارجيّة محايدة من دون إجراء أيّ تعديلات على الدستور اللبناني، لأنّ إجراء تعديل من دون التزام القوى السياسيّة بمسألة الحياد يجعل الموضوع بدون جدوى. إنّ الآليّة القانونيّة المعتمدة لإعلان الحياد ليست مهمّة بقدر أهميّة الآليّة الداخليّة السياسيّة للوصول إلى هذا الواقع والاتّفاق من خلال حوار وطني لاعتماد الحياد بشكل يناسب لبنان لأنّه يوجد هامش من الخيار يمكن اعتماده. إنّ اعتماد لبنان لمسألة الحياد الإيجابي، يشكّل مدخلًا ليكون دولة مستقلّة بدلًا من أن يكون ساحة، بالإضافة إلى الفوائد الاقتصاديّة نظرًا إلى كونه دولة صغيرة، حيث من الممكن أن يلعب دورًا أكبر من حجمه في العلاقات الدوليّة، إذ كلّنا نعرف أنّ أغلب المؤتمرات لحلّ النزاعات يدور عقالها في بلدان محايدة مثل سويسرا والنمسا كما هو الحال بالنسبة إلى مفاوضات النووي الإيراني.
هذا وينبغي الاشارة إلى أنّ الحياد أنواع. فالحياد الإيجابي بحسب النموذج النمساوي هو غير الحياد السويسري، فبحسب النموذج الأوّل (النمساوي) تبقى كلّ الخيارات مفتوحة أمام اللبنانيّين كأفراد للتفاعل مع كلّ القضايا والتيّارات ولاتّخاذ المواقف الداعمة لها، ويمكن أن يبقى لبنان المنبر الذي يحتضن كلّ القضايا وكلّ الآراء. ويفترض خيار الحياد الإيجابي أن يعيد لبنان النظر في سياسته الخارجيّة فتكون مسالمة مع الجميع ومنفتحة على الجميع من دون تحيّز وكذلك في سياسته الدفاعيّة، فيكون مسالمًا غير مقاتل لا مع أحد ولا ضدّه. بالحقيقة، لم يعد الحياد الإيجابي خيارًا بالنسبة إلى لبنان بل قدرًا محتّمًا إذا أراد اللبنانيّون أن يبقى بلدهم وألّا يتقاسم أشلائه الجيران والأشقّاء، الأقربون منهم والأبعدون.