مصر – فلسطين – لبنان: مجتمعات الكراهية

هشام بو ناصيف

أتابع منذ أيّام الأخبار المتوفّرة عن حادثة مقتل الكاهن القبطي أرسانيوس وديد بالاسكندريّة، الخميس الماضي، بعد أن طعنه متشدّد يدعى نهرو توفيق بعنقه. لم يكن توفيق – السجين السابق بسبب نشاطه الاسلامي ­– يعرف الكاهن، وهو قال في التحقيق معه إنّه عندما رأى رجل الدين المسيحي "لم يشعر بما ارتكبه"، حتّى أرداه. كلّ ما رشح عن القضيّة يفيد أنّها حلقة جديدة من مسلسل لا ينتهي في مصر: قتل المسيحيّين أو إهانتهم بدافع الكراهية الطائفيّة. وكما غالبًا، شاعت أخبار أنّ الجاني يعاني من اضطرابات نفسيّة، وهو ما يتكرّر عندما يقتل متشدّدون أقباطًا؛ وكما كلّ مرّة، يسأل أقباط: ما سرّ أنّ المضطربين يستهدفون المسيحيّين تحديدًا لقتلهم؟ وللمهتمّين بالشؤون المصريّة، تعيد الحادثة إلى البال فورًا جريمتين مشابهتين وقعتا عام 2017، واحدة عرفت إعلاميًّا باسم حادثة "كاهن المرج"، وهو رجل الدين سمعان شحاتة الذي كان يسير مع كاهن آخر في الشارع قبل أن ينقضّ عليهما متطرّف يدعى أحمد سعيد، ثمّ يذبح شحاتة بساطور كان يحمله. وفي العام 2017 أيضًا، ذبح متطرّف آخر تاجر خمور مسيحي بالاسكندريّة دون معرفة سابقة بينهما؛ وتردّد أنّ مرتكب الجريمة مختلّ عقليًّا، قبل أن يتّضح لاحقًا أنّه ليس كذلك، وأنّه كان يتلقّى دروسًا بالشريعة عند وليد اسماعيل، الداعية السلفي المعروف.

بالعادة، يعمد الأقباط إلى طيّ صفحة الجرائم بسرعة طلبًا للسترة، علمًا أنّ أجهزة الأمن المصريّة تتدخّل لاجراء مصالحات قسريّة حفاظًا على "الوحدة الوطنيّة". بالغالب، سيحصل ذلك هذه المرّة أيضًا، ولو أنّ صوت الاعتراض القبطي أقلّ خفوتًا. مثلًا، طالب اسقف المنيا، الأنبا مكاريوس، بالبحث عن القاتل الحقيقي ومحاكمة "الفكر المتطرّف والتحريض الذين لهم خطابات تحرّض على الآخر والذي يتمّ تحفيظه أنّه يقدّم خدمة للّه"، مضيفًا بصراحة غير معتادة: "تكرار حوادث استهداف الأقباط يعني أنّ القاتل الحقيقي لم يعاقب" (راجع تصريحه لموقع "الأقباط اليوم"، بعد وقوع الجريمة). ليس من الصعب فهم ما يعنيه مكاريوس: منذ سنوات، يمعن نجوم الدعوة الاسلاميّة في مصر بتكفير المسيحيّين بما في ذلك تحريم معايدتهم بالميلاد والفصح، والحثّ على هدم الكنائس. محرّضون كالحويني، وسالم عبد الجليل، وبرهامي، وعبد اللّه رشدي، ومحمّد حسّان، مجرّد أمثلة من أخرى كثيرة. ويكرّر أحد الناطقين باسم الأزهر عبد المنعم فؤاد، تكفير المسيحيّين، دون أن يؤثّر ذلك على موقعه الوظيفي كعميد كليّة العلوم الاسلاميّة للوافدين وأستاذ العقيدة بالأزهر.

والحال أنّ الكراهية التي تحيط بمسيحيّي مصر لا تخطئها عين. أوضاعهم ساءت منذ انقلاب الضبّاط الأحرار عام 1952 ­­– لم يكن بينهم ضابط مسيحي واحد، ونواتهم القياديّة انحدرت من خلفيّة إخوانيّة، بما في ذلك جمال عبد الناصر نفسه – ثمّ تدهورت بسرعة في عهد أنور السادات والسنوات اللاحقة. فكّر بمسألة دوري كرة القدم مثلًا: من أصل 540 لاعبًا في الدوري الممتاز، يوجد لاعب مسيحي واحد هو جرجس مجدي، إذ يعاني اللاعبون الأقباط من رفض النوادي إعطائهم فرصة، ولو بزّوا زملاءهم المسلمين. هذا مقطع يستحقّ القراءة من مقال نشره موقع "درج" في مارس 2021 بعنوان "أن تكون لاعب كرة قبطيًّا في مصر: طلبوا منّي تغيير اسمي وديني":

"وكمان اسمك مينا، إطلع برّه. كانت الطعنة الأخيرة الموجّهة إلى الطفل مينا عصام بعدما نجح في الاختبارات المبدئيّة للنادي الأهلي، وتفوّق على 250 طفلاً متقدمًا لمركز حراسة المرمى، وأبلغه المسؤولون بالحضور لفرع النادي في ضاحية مدينة نصر في القاهرة للاختبار النهائي، ليذهب متحمِّسًا، ويعلم أنّ اسمه تمّ حذفه من القوائم. يقول مينا عصام، في تصريحات صحافية سابقة، إن الكابتن علي خليل، مدرّب حرّاس المرمى، "متعصّب وعاملني بشكل سيّئ"، وعندما ذكر اسمه للكابتن أحمد إكرامي، المشرف الفنّي على مدرّبي حرّاس المرمى بقطاع الناشئين في الأهلي، رفض إعادته للاختبارات، وطرده من على الباب عندما ذكر أن اسمه "مينا"، وقال والده إنّ الكابتن عادل طعيمة، المسؤول في الأهلي، قال له: لو ابنك أحسن لاعب في المجموعة، مش هاخده".

ما كانت قضيّة الدوري لتكون ببال لولا أنّها معبّرة عن ديناميكيّات أكثر خطورة. مسألة ترميم دور العبادة، أو بناء كنائس جديدة، لا تزال شديدة التعقيد، وغالبًا ما يتعرّض الأقباط للحصار من قبل متشدّدين خلال صلواتهم، ثمّ يخرجون من الكنائس بحماية القوى الأمنيّة، كما حصل تكرارًا في محافظة المنيا، جنوب القاهرة. وقبل سنوات، أمر الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي بالسماح لأقباط قرية العور وسط مصر ببناء كنيسة، لأنّ 13 من أصل 21 قبطيًّا ذبحهم تنظيم داعش في ليبيا من أبناء البلدة؛ ولكنّ مسيحيّي القرية تعرّضوا فورًا لهجوم من متشدّدين ألقوا المولوتوف على ممتلكات الأقباط ومنازلهم للتعبير عن غضبهم من القرار الرئاسي. وأبعد من العنف الجسدي المتكرّر، التوظيف بالأجهزة الأمنيّة مقفل عمليًّا على الأقباط، وحضورهم بالجيش رمزي، وشبه منعدم بين قياداته، وكذلك الأمر في جهاز الشرطة، وبين عمداء الجامعات، والمناصب الاداريّة العليا عمومًا بجهاز الدولة. ويحار الأقباط في وضعهم. من جهة، يبالغون بإظهار التودّد للمسلمين درءًا للشرّ؛ مثلًا، أظهرت صور نشرتها الصحف بعد جريمة الكاهن أرسانيوس، القتيل بالاسكندريّة، أنّه كان يوزّع شنط رمضان على فقراء المسلمين قبل أيّام من مصرعه. ومن جهة ثانية، يهاجر الأقباط من مصر بكثافة، وينشدون حياة مختلفة في دول كالولايات المتّحدة، وكندا، وبريطانيا، وجورجيا.

في فلسطين، طفت في الأيّام الأخيرة صور من رام اللّه حيث وزّع شبّان الحلوى ابتهاجًا بقتل فلسطيني يدعى رعد حازم ثلاثة شبّان إسرائيليّين اختارهم بمحض الصدفة في تلّ أبيب. الصور تعيد إلى البال مشاهد مماثلة لفلسطينيّين يوزّعون الحلوى في نابلس، والقدس الشرقيّة، وعدد من مخيّمات الشتات، بعد اعتداءات الحادي عشر من أيلول التي أدّت الى مقتل 3000 شخص تقريبًا. وفي العام 2020، سرّبت وسائل الاعلام العالميّة قرارًا لأجهزة حماس في غزّة بمنع مظاهر الاحتفال بعيد الميلاد في القطاع، أو الحدّ منها، علمًا أنّ عدد المسيحيّين المتبقّين في غزّة لا يتجاوز الألف، يحيط بهم مليونا مسلم. ومن ينتبه إلى الشقاق المسلم – المسيحي في فلسطين لن يفاجأ عندما يقرأ في مذكّرات وزير الدفاع الاسرائيلي السابق موشيه أرنز الصادرة عن بروكينغز، عام 2018، أنّ رئيس بلديّة بيت لحم الياس فريج حثّه عام 1982 لضمّ البلدة إلى اسرائيل حفاظًا على طابعها المسيحي، بعد أنّ تزايد عدد المسلمين فيها. استطرادًا، ربّما لن يفاجأ من يقرأ الكتاب بما يذكره أرنز عن عمق علاقة السلطات الإسرائيليّة بدروز إسرائيل.

أمّا في لبنان، فيحار المراقب من أين يبدأ. مقتل الإسرائيليّين الثلاثة المذكورين أعلاه دفع البعض لإطلاق النيران بالهواء ابتهاجًا. كم من الكراهية ينبغي أن تعتمل بانسان ليحتفل بمقتل مدنيّين لا يعرفهم، كلّ ذنبهم أنّهم كانوا في المكان الخطأ، بالتوقيت الخطأ؟ من جهة ثانية، طفا في الأيّام الأخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو قديم لمناصري حزب اللّه يحتفلون بتحوّلات ديموغرافيّة بمنطقة زحلة، ذات الغالبيّة المسيحيّة تقليديًّا، منشدين أنّ "زحلة صارت شيعيّة"؛ وهناك فيديو بعد أقدم يفاخر بأنّ منطقة خلدة (سنّّة) صارت كذلك أيضًا. ومن المعروف أنّ شعار "شيعة، شيعة، شيعة" يصاحب تظاهرات مؤيّدي الحزبين الشيعين الأساسيّين، وأنّ فيديوهات الهجوم على منطقة عين الرمّانة المسيحيّة، قبل أشهر، حافلة بشتائم طائفيّة، فضلًا عن تكسير المحال والسيّارات، قبل تصعيد الأمور وإطلاق النار. ثمّ أنّ المباريات الرياضيّة تتحوّل أحيانًا إلى صدامات طائفيّة صريحة، كما جرى البارحة أثناء المباراة بين نادي الحكمة (مسيحي)، والرياضي (سنّي).

ومن نكباتنا الفكريّة، استسهال تعليق هذا النوع من الانقسامات المجتمعيّة العميقة على شمّاعة الغرب، و"الكولونياليّة" التي اخترعت المسألة الطائفيّة لتقسيمنا؛ أو إقناع الذات بأنّ مسألة الهويّة تفصيل بالمقارنة مع قضايا أخرى أهمّ منها ومركزيّة أكثر؛ أو استسهال استحضار العلمنة كحلّ، كأنّ نجاح العلمنة في الغرب يجعل منها حتميّة تاريخيّة بمنطقتنا، دع عنك أنّ طرح العلمنة كحلّ نظري للمسألة الطائفيّة قابل للنقاش. والحال أنّ الكراهية العميقة في مجتمعاتنا تجعل من تواريخها مسارات نزاعات أهليّة مديدة، يفصل بينها وقف اطلاق نار يطول أو يقصر حسب الظروف السياسيّة. وأيّا يكن الحلّ، على افتراض وجوده، فالأكيد أنّ اللغو عن أولويّة المسألة الاقتصاديّة – الاجتماعيّة، والكلام عن محاربة الفساد، ليس هو. أكثر ما تقدّمه هذه الرطانة هو طريق سريع باتّجاه الاستقالة من التفكير.