تربيع الدائرة: بخصوص العلمنة والاسلام

هشام بو ناصيف

طرح العلمنة الذي تثيره منذ سنوات بعض قوى عاميّة 17 تشرين هو التجلّي الرابع في لبنان للفكرة ذاتها. الطور الأّوّل لها بدأ مع مفكّري الجزء الثاني من القرن التاسع عشر كشبلي الشميّل، وبطرس البستاني. ثمّ تحوّلت العلمنة من فكرة إلى تجارب حزبيّة مع الحزب السوري القومي الاجتماعي، وقوى أخرى، شيوعيّة أو قوميّة، مطلع القرن العشرين. ثمّ طرح البرنامج المرحلي للحركة الوطنيّة العلمنة مواربة، في السبعينات. ثمّ خبت الفكرة وصولًا للطور الحالي. أوّل الملاحظات هنا هي التالية: 1) بخلاف ما قد يظنّ بعض أنصارها، العلمنة فكرة قديمة عندنا. إعادة طرحها لا تأتي بجديد، سيّما وأنّ أحدًا ليس مهتمًّا بالاجابة على سؤال بديهي: إن كانت المنطقة لفظت العلمنة تكرارًا، وبعزّ الزمن "الليبرالي"، ما الجدوى من طرحها اليوم، وماذا تغيّر؟ 2) تقليديًّا، انحدر جلّ العلمانيّين من خلفيّات أقلّويّة. عواطف الغالبيّة المسلمة (والبيئة السنيّة خصوصًا) في لبنان والمنطقة حرّكتها القوميّة العربيّة، ثمّ الاسلام السياسي. بمعنى آخر، لم تفرز هذ الغالبيّة مرّة تيّارًا علمانيًّا يتمتّع بشرعيّة شعبيّة. أن تنحدر أكثر الوجوه صراحة بتبنّي العلمنة اليوم مجدّدًا من خلفيّات أقلّويّة يوحي أنّ الاستعصاء المسلم على حاله، أي أنّ المأزق القديم هو هو. 3) لم يبدأ طور واحد من الأطوار السابقة للعلمنة، الّا وأظهر تسلسل الأحداث فورًا مدى الطلاق التامّ بين الفكرة والواقع، وبشكل تراجيدي. عندما كان بطرس البستاني يقنع نفسه أنّ "الدين للّه والوطن للجميع" (شعار جريدته، نفير سوريا)، كانت دوائر القرار بالسلطنة العثمانيّة تقرّر أنّ عدد المسيحيّين فيها خطر عليها، وأنّ استقرار السلطنة يقتضي التخلّص منهم. وفي ثلاثين عامًا رهيبة، بين 1894 و 1924، قضى مئات الآلاف من الأرمن (خصوصًا)، والسريان، وانخفض عدد المسيحيّين بتركيا من 20% إلى أقلّ من 2% كما فنّد الكتاب المرجعي لبيني موريس ودرور زئيفي (هارفرد، 2019). وفي الأمر هنا عبرتان: الأولى هي أنّ موقف بطرس البستاني وصحبه من العلمنة، تأييدًا أو رفضًا، لا يهمّ كثيرا. من يحدّد مصير الفكرة بالمنطقة غالبيّتها. وأمّا العبرة الثانية، والمثيرة للاهتمام بعد أكثر، فهي أنّ تحوّل تركيا من الخلافة العثمانيّة إلى العلمنة مع جمعيّة الاتّحاد والترقّي، ثمّ مصطفى كمال، لم يحمِ الأقليّات الدينيّة. الجزء الأكبر من المذابح التي أودت بها تورّطت به الاتّحاد والترقّي، ثمّ أتاتورك، وكلا النظامين علماني. كان هذا مؤشّرًا مبكرًا إلى أنّ تهويمات المنظّرين العلمانيّين شيء، وهويّة المنطقة، وحسابات نخبها، شيء آخر تمامًا.

الطورالثاني للعلمنة لم يفض إلى نتيجة مختلفة. أنطون سعادة زاوج العلمنة مع البروتو– فاشيّة، وفشل باختراق البيئة السنيّة في لبنان وسوريا. النقمة الشيعيّة على النظامين في لبنان والعراق رفدت الشيوعيّة بشيء من تأييد شعبي، ولكنّه تراجع مع الصحوة الدينيّة التي انطلقت في السبعينات، قبل أن يخبو لاحقًا. أمّا البعث، فقد تحوّل بسرعة إلى حزب الطائفة، والعشيرة، والعائلة، في سوريا والعراق. مجدّدًا، بدت المطوّلات النظريّة في مكان، والواقعين المجتمعي والسياسي في مكان آخر. وإن ظنّت الحركة الوطنيّة لاحقًا أنّ الوقت حان لتجاوز الطوائف، وللقانون المدني للأحوال الشخصيّة، وسائر عناوين برنامجها المرحلي، فقد جاء انتصار الخميني في إيران، والتجاوب الفوري الذي لاقاه بين شيعة لبنان والعراق، ليظهر مجدّدًا طلاق النظري مع العملي: متن الشيعة في لبنان بايع الإمام موسى الصدر أوّلًا، ثمّ الخميني؛ اختراق الحركة الوطنيّة لهم بقي هامشيًّا، قبل أن ينطفئ.

التخفّف من الواقع لمصلحة الإيديولوجيا سمة الطرح العلماني بأطواره السابقة. يعيد العلمانيّون من قوى 17 تشرين اليوم انتاج المشكلة عينها. لن أتوقّف كثيرًا عند تحويل "كلّن يعني كلّن" إلى حجّة لتضييع مسؤوليّة حزب اللّه الأساسيّة عمّا وصلت إليه الأمور في لبنان، أو عند التوهّم بإمكانيّة الإصلاح الاقتصادي – الاجتماعي بمعزل عن المسألة السياديّة. ليس هذا موضوع هذه السطور، على أهميّته. بالمقابل، تستوقفني بشدّة المسـألة التالية: بات ثلثا سكّان لبنان من المسلمين؛ عندما يطرح ناشطون العلمنة كحلّ، يحاججون ضمنًا بقابليّة الاسلام لهضم العلمنة، وقبولها. هذه أسبابي للتشكيك بطرحهم.

أوّلا، العلمنة فكرة غربيّة، ومرارة المسلمين من الغرب بأوجها. في القرنين الماضيين، أذلّ الغرب آخر خلافة إسلاميّة مرارًا في ساحات الحرب، قبل أن يقضي عليها بعد الحرب الكونيّة؛ ثمّ وسّع الغرب سيطرته الكولونياليّة في عالم الإسلام، وخصوصًا بين العرب؛ ثمّ تحالف مع اسرائيل، ولا يزال؛ ثمّ تقدّم علميًّا بأشواط، تاركًا عالم المسلمين بمكان آخر تمامًا. هناك وعي ديني زيّن لنفسه طوال قرون أنّه "خير أمّة أخرجت للناس" ثمّ استفاق دون مقدّمات وبشكل موجع على واقع الهوان، والهامشيّة في سياسات العالم، والتأخّر التكنولوجي. عمق كراهية المنتصر الغربي بصدام الألف عام هو الوجه الآخر للحنق الناجم عن المسافة الفاصلة بين الذات كما يراد لها أن تكون بين الأمم، والموقع الذي تحتلّه فعلًا. يقوّض ما سبق احتمالات العلمنة لسببين: سيبقى بين المسلمين دومًا من يذكّرهم أنّ الأمور لم تكن دومًا سيّئة كما هي اليوم، وأنهم حاصروا فيينا مرّتين، وفتحوا الأندلس، وخرج منهم علماء، يوم عاشوا في ظلّ الدين والخلافة. تاليًا، من يريد منهم للمجد التليد بعثًا، فعليه بالعودة الى بنيته التحتيّة الإيديولوجيّة والشعوريّة: الإسلام. استطرادًا، ستبقى الردّة الماضويّة عقبة جبّارة بوجه العلمنة في عالم الإسلام الى أمد غير منظور. ثمّ أنّ الغرب جرّد المسلمين من الكثير؛ لو يقبلون على العلمنة، يكتمل انتصاره عليهم بضرب دينهم وشخصيّتهم. العلمنة في أوروبا انتصار بعض الغرب على بعضه الآخر. العلمنة في عالم الاسلام انتصار حضارة على أخرى؛ وآخر ما يريده جلّ المسلمين اليوم اهداء الغرب انتصاره الأخير عليهم، والأسمى.

ثانيًا، من دون تقليل الأبعاد السياسيّة للحظة الدين المسيحي التأسيسيّة في فلسطين (أقصد ما اختزنته حركة المسيح من نقمة يهوديّة على الاحتلال الروماني؛ ونقمة فقراء اليهود غير المتعاونين مع هذا الاحتلال على الطبقات العليا المتواطئة معه؛ ونقمة يهود الأرياف في الجليل، على يهود المدن؛ ونقمة صغار الحاخامات على كبار الكهنة)، يبقى أنّ النصوص التأسيسيّة للدين المسيحي متخفّفة من أيّ نظريّة للحكم والدولة. ما كان بالامكان أن يكون الأمر مختلفًا: أيّ حظّ كانت تملكه جماعة دينيّة صغيرة ناشئة في الجليل ضدّ الامبراطوريّة الرومانيّة آنذاك؟ طبيعي أن يقرّر منشئ الدين الجديد أنّ "مملكته ليست من هذا العالم"، وأن يطلب من شيعته إعطاء "ما للّه للّه، وما لقيصر لقيصر". فإذا ما أضفنا إلى هذه النصوص أنّ المسيح لم يحرّك جيشا، أو يقد دولة، من جهة؛ وأنّ المسيحيّة لم تصبح الدين الرسمي للامبراطوريّة الرومانيّة الّا في القرن الرابع، أي أنّها عاشت قرونها الأولى كحركة دينيّة خلاصيّة لا كمشروع حكم، من جهة أخرى، تصبح الاحتمالات العلمانيّة للمسيحيّة واضحة. المسألة مختلفة تمامًا في الإسلام، من النصّ القرآني، إلى تكامل الأدوار الدينيّة والسياسيّة والعسكريّة لمؤسّسه، إلى الانتصار السريع للرسالة الجديدة وتولّيها زمام الحكم منذ دانت المدينة لمحمّد. أن يكون التقويم المسيحي ميلاديًّا، يعني أنّ المسيحيّة بدأت بولادة المسيح؛ أن يكون التقويم الإسلامي هجريًّا، يوحي أنّ الاسلام بدأ فعلًا بنزوح جماعته الأولى صوب أوّل بقعة أرض تولّاها سياسيًّا. قد لا يكون الاختلاف هنا صدفة، أو رمزيًّا فحسب. استطرادًا، أن نقول أن لا موازاة بالقرآن لـ"اعطوا ما للّه للّه، وما لقيصر لقيصر" تحصيل حاصل؛ بالحقيقة، هناك الموازي للعكس تمامًا. ومن يبحث عن شرعيّة قرآنيّة لنوع من علمنة إسلاميّة، لن يجدها.

ربّ قراءة للإسلام تسعى للفصل بين الزمني والديني من داخل القرآن. مثلًا، حاجج المفكّر السوداني محمود محمّد طه أنّ للاسلام رسالتين: الأولى سعت لتنظيم الحكم في المدينة، بالقرن السابع؛ تاليًا، أحكامها محصورة بالمكان، وبزمان انقضى منذ قرون؛ والثانية (الآيات المكيّة) تحمل الرسالة السامية للاسلام، الصالحة مدى الدهر، على أنّ يعاد تفسيرها لتتلاءم مع زمنها ومكانها. نظام جعفر النميري قضى على طه بالحكم شنقًا، دون أن يصلّى عليه أو يدفن بمقابر المسلمين. ولعلّ الموت الثاني لطه هو هامشيّة أفكاره التي لم تحدث إلى اليوم الثورة الفكريّة بعالم الاسلام التي عمل لها. ولا أحدثتها أفكار سيّد القمني، أو نصر حامد أبو زيد، أو سواهم من العقلانيّين العرب. ويحاجج علمانيّون أحيانًا أنّ أفكارهم ستنتصر بعد أن يظهر مارتن لوثر الاسلام. يفوتهم هنا أمور ثلاثة: أوّلها أنّ مارتن لوثر الاسلام ظهر فعلًا، وتكرارًا، بيد أنّه فشل بكلّ مرّة. والثاني، هو أنّ لا حتميّات في التاريخ وسيرورة الأديان: أن يكون الاصلاح الديني نجح بالغرب لا يجعل من نجاحه حتميًّا في عالم الاسلام. والثالث، هو أنّ مارتن لوثر تحالف مع أمراء ألمان أقوياء حموه من بطش الكنيسة الكاثوليكيّة، وسهّلوا نشر دعوته. بالمقابل، هذا الأمر لم يحدث مرّة بعالم الاسلام، وخصوصًا في نواته الصلبة العربيّة. ومن يعتقد أنّ حكّامًا كجمال عبد الناصر، أو عبد الفتّاح السيسي، مثلًا، علمانيّون، لم يقرأهم (أو لا يفهم العلمنة).

ثالثًا، واستطرادًا للنقطة الثانية: لا يوجد في المسيحيّة الموازي للحديث، والسنّة، والشريعة، في الاسلام. بولس الرسول قال عن الناموس أنّه "لعنة" وأنّ تعاليم المسيح ألغته. أمّا وأنّ خلاص النفس يمرّ بالاقتداء الروحاني بالمسيح، فلا ضرورة لقوانين تنظّم هذا التفصيل أو ذاك من حياة المؤمن، ولا لسلطة تضمن تقيّده بها. باختصار، لا ضرورة، كي يكتمل الإيمان المسيحي، لدولة مسيحيّة. هنا أيضًا، الأمر مختلف في الاسلام. ثمّ أنّ ما يتوفّر للمؤمن المسيحي عن حياة المسيح وتعاليمه مقتضب جدًّا بالمقارنة مع المعطيات المتوافرة عن محمّد، بما في ذلك الحساء الذي أوصى به، وكيف كان يستعمل السواك لتنظيف الفم. هناك مساحات كبيرة بحياة الانسان تصمت المسيحيّة عنها؛ تستطيع العلمنة والقوانين الوضعيّة أن تملأ هذه الفراغات دون أن تصطدم بالدين. هذه المساحات أضيق في الإسلام.

لا يلغي كلّ ما سبق أنّ العلمنة لم تأتِ في العالم المسيحي إلّا بعد صراع طويل ومرير مع الكنيسة. بيد أنّ هذا بذاته يطرح اشكاليّة أخرى: إن كانت المسيحيّة أكثر مواءمة للعلمنة، ومع ذلك تأخّرت بالمجتمعات المسيحيّة لقرون، فعلى أيّ أساس يعلّق العلمانيّون عندنا آمالهم؟ هذا مع التأكيد طبعًا أنّ هذه الآمال نبيلة لدى الصادقين منهم، والمشروع نبيل بدوره. بيد أنّ تاريخ البشر مليء بالأفكار السامية التي بقيت هذا بالتحديد: تهويمات.