مازن سعد
فرضت الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسيّة يوم الأحد 10 نيسان معطيات ومعادلات جديدة على اللعبة السياسيّة، التي شهدت نوعًا من الاستقرار استمرّ منذ تأسيس الجمهوريّة الخامسة. فقد أنهت هذه الانتخابات ثنائيّة اليمين واليسار "التقليديّين"، بعد نيل الحزبين الجمهوري والاشتراكي أرقامًا هزيلة، لتنتقل التوازنات السياسيّة إلى التيّارات "المتطرّفة" من كلا الجهتين، وتيّار "وسطي" لا يقل "شعبويّة" عنهما.
حملت هذه النتائج تحليلات كثيرة حول مستقبل فرنسا، ومرتكزاته الجديدة التي بدأت تتوضّح. لكن اللافت انطلاقًا من الواقع اللبناني، يتمثّل بنيل مرشّح حزب "فرنسا الأبيّة"، "اليساري المتطرّف"، جان-لوك ميلانشون 69% من أصوات المسلمين الفرنسيّين.
يعني ذلك، أنّه في أمّ العلمانيّة فرنسا، حيث يقدّس مبدأ فصل الدين عن الدولة، وحيث لا نظام طائفي يوزّع الحصص والمقاعد، ولا امتيازات لرؤساء طوائف، ولا لمجتمعات متباعدة جغرافيًّا بسبب الحروب... اصطفّت طائفة بأغلبيّتها الساحقة خلف مرشّح رأت فيه أنّه الأنسب لتمثيل رؤيتها ومصالحها كمجموعة، وليس كأفراد.
الأمر لا يقتصر على المسلمين، وإن كان الاصطفاف لديهم بارزًا بشكل أوضح، إذ حصد مرشّحَي "اليمين المتطرّف" (مارين لوبان، إيريك زِمور، ونيكولا دوبون إنيان)، نسبة 40% من الكاثوليك، بازدياد ملحوظ عن عام 2017.
تأتي هذه النتائج في ظلّ توتّر مستمرّ تعيشه فرنسا في السنوات الأخيرة حول مواضيع تتعلّق بالعلمانيّة والدين، ومسائل الأمن والإرهاب والهجرة. فقد تبنّى ميلانشون خطابًا فئويًّا قائمًا يعتبر أنّ المسلمين يتعرّضون للتمييز داخل المجتمع الفرنسي، فيما يرى مرشّحا اليمين المتطرّف أنّ المطالب التي يرفعها المسلمون (كالسماح بارتداء الحجاب في المؤسسات العامة...) تتعارض مع مبدأ العلمانيّة والثقافة الفرنسيّة الموروثة.
يمكن تعداد أسباب وفيرة حول هذه الاصطفافات المستجدّة على فرنسا، لكن لا يمكن اعتبار ما يحدث أمرًا استثنائيًّا أو غيمة صيف وستمرّ. بل إنّ فرنسا ستشهد ما تشهده جميع المجتمعات المتعدّدة الأخرى: مجموعات ثقافيّة أو هويّتيّة أو طائفيّة تمارس السياسة لتحقيق تطلّعاتها ومصالحها ورؤيتها ونمط عيشها كجماعات واضحة المعالم تحدّد بشكل مفصّل حدودها مع الجماعات الأخرى، وليس كمواطنين أو كأفراد.
قدرة هذه الجماعات على رسم حدودها، بناءً على دينها أو ثقافتها أو لغتها... لا يستطيع النظام السياسي القائم منعها أكان نظامًا يقرّ بالتعدديّة بداخله أو نظامًا يرفض بتاتًا إعطاء طابع رسمي لهذه التعدديات.
فلن تمنع العلمانيّة الفرنسيّة أن يقوم المسلمون مثلًا باستخدام جميع الوسائل المتاحة لإلغاء الحظر المفروض على الحجاب في المدارس وفي المؤسّسات الحكوميّة، أو لفرض وجبة "حلال" في مطاعم المدارس أو الجامعات. فهم يعتقدون أنّ هذه الأمور هي حقّ على الدولة الاعتراف به، فيما تنظر فئة أخرى من الفرنسيّين إليها كأمور تخالف حريّة المرأة أو مبدأ العلمانيّة.
لا تزال فرنسا في بداية مسار طائفي، لا نعرف تحديدًا كيف سيتطوّر، لكن أصبح من الصعب جدًّا مواصلة إنكاره والتوهّم أنّ الأمور ستعود كما كانت عليه سابقًا. كما أنّ الفرضيّات التي تنظّر للمشكلة الفرنسيّة على أنّها اقتصاديّة فقط، لم تعد باستطاعتها فهم الواقع الجديد.
"أهل مكة أدرى بشعبها"، ولسنا بصدد إيجاد حلول لمشاكل الفرنسيّين الداخليّة. لكن الأجدى بـ"علمانيّي" لبنان استخلاص العبر ممّا يحدث في معقل العلمانيّة: فإذا لم تتمكّن العلمانيّة الفرنسيّة الرائدة من منع ظهور طائفيّة آخذة في التبلور لديها، فكيف باستطاعتها أن تكون حلًّا لمجتمع مركّب على أسس طائفيّة؟