هشام بو ناصيف
رافق تصاعد خطاب العداء لإسرائيل انهيار الدولة اللبنانيّة آخر الستّينات؛ وهي تتحلّل أمام أعيننا اليوم على وقع الخطاب عينه. ومنذ اقتراف أكبر جريمة بحقّ اللبنانيّين عام 1969، عنيت اتّفاقيّة القاهرة، إلى اليوم، تغيّرت هويّة مستخدمي بلادنا، ومسلّعيها، وذابحيها، من فلسطينيّين، إلى سوريّين، ثمّ إيرانيّين، ولكنّ الخلفيّة الإيديولوجيّة لسحقنا لم تتغيّر: أولويّة الصراع مع "العدوّ الصهيوني". أمّا وأنّ خطاب إزالة اسرائيل من الوجود مهّد طريقنا صوب الجحيم، فالخروج منه (على افتراضه ممكنًا) يقتضي التخلّي عن الخطاب، والمنطق الذي يرفده، والسياسات التي تنجم عنه.
ولكن هذا ما لا ترضى به القوى البديلة الغرّاء، على ما يبدو. استمعت اليوم لمرشّحة تغييريّة بالشوف تبرّر فيها حمل السلاح غير الشرعي في الجنوب طالما أنّه موجّه صوب "العدوّ الصهيوني". وفي الشوف أيضًا، مشروع "النقاط العشر" الذي يشترط على المرشّحين كي يستحقّوا دعمه ضرورة أخذ "موقف واضح من نظام الاحتلال الصهيوني بوصفه نظام احتلال وفصل عنصري، وموقف واضح منحاز للشعب الفلسطيني وحقّه بمواجهة الاحتلال". مثير للاهتمام أن يضع "النقاط العشر" ويروّج لها ناشطون من الشوف، حيث ارتكبت فصائل فلسطينيّة في الدامور أوّل المجازر الكبرى بالحرب اللبنانيّة عام 1976، قبل أن يساهم فلسطينيّو "أبو موسى" عام 1983 بتطهير المنطقة عرقيًّا. ولا ريب أنّ واضعي "النقاط العشر" يعلمون ما اقترفه فلسطينيّون بالجبل، دون أن يثير ذلك مشكلة – بالعكس تمامًا – بسبب خلفيّتهم الطائفيّة. ممفد، والشيوعي، وما شاكل من الظواهر الممانعة، القديمة، والجديدة، بالتوجّه نفسه.
انسحبت اسرائيل من لبنان عام 2000، وعلاقتنا معها تحكمها اتفاقيّة الهدنة، والقانون الدولي. تستطيع الأمور أن تتوقّف هنا. ولكن هذا يفترض أن تكون المصلحة اللبنانيّة نبراس الحكم على الأمور؛ وهذا ما يرفضه أصحاب وعي لم يرَ مرّة بالمشروع اللبناني غير آخر لا يطيقه. ومهما فعل حسن نصر اللّه، سيظلّ هذا النوع من المعارضين أقرب إليه من الخطاب السيادي اللبناني لأنّ خلفيّتهم الطائفيّة قرّرت هكذا. كيف يعني أنّ هؤلاء يعارضون النظام ويتبنّون في آن خطاب نواته الصلبة؟ القطيعة مع النخبة الحاكمة تفترض مواجهة مبرّراتها الإيديولوجيّة. من لا يفعل هو من صلب النظام، ولو شاغب عليه قليلًا. والحال أنّ الوطنيّين اللبنانيّين سئموا من خطاب الحرب الأبديّة. سئموا بعد أكثر من مردّديه، سواء كانوا ممانعين، أم طائفيّين ينتحلون صفة معارضة. مستقبل الشراكة معهم يعد بمزيد من المآسي لأنّ وعيهم لا ينتج سواها.
ويبقى فكّ الارتباط هو الحلّ.