معضلة الهويّات العابرة للحدود: من مؤتمرات الساحل إلى ولاية الفقيه

شربل نوح

يعيد الفيديو الذي انتشر بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي لطلّاب لبنانيّين يرفعون العلم الإيراني ويقسمون الولاء للخامنئي تظهير المعضلة الأساس بتاريخ لبنان العاصر، عنيت الهويّات العابرة لحدوده. من منطلق ليبرالي، لا يمكن سوى احترام حقّ كلّ منّا بذاتيّته وهويّته، بطبيعة الحال. ولكن عندما تتحوّل الهويّات المجتمعيّة إلى ولاءات سياسيّة عابرة للحدود، تدخل الدول فورًا على خطّ الصراعات الداخليّة، والقابليّة لاستجلاب التدخّلات الخارجيّة. وهنا، بالحقيقة، أمّ مشاكل وطننا الصغير الذي أمّن الملجأ والملاذ لساكنيه، وعانى منذ كان من ارتباط بعضهم بدول ومحاور خارجه. الولاءات الخارجيّة سيّئة أيًّا تكن، ولكن عندما يكون المحيط مسكونًا بالأنظمة الشموليّة والمنظومات القيميّة غير الليبراليّة، فالمصيبة أعظم. هنا جذر كلّ مصائبنا.

أوّل الغيث تاريخيًّا كانت مؤتمرات الساحل في عشرينات القرن الماضي التي رفضت الكيان و نادت بضمّ مدن الساحل إلى الجوار السوري؛ ثمّ كان التفاعل العميق لاحقًا في الخمسينات مع القاهرة نتيجة إحساس شرائح من مسلمي لبنان بارتباطهم العضوي بطروحات عبد الناصر ومشروع الجمهوريّة العربيّة المتّحدة.

لاحقًا أيضًا، اصطدمت مقتضيات السيادة الوطنيّة اللبنانيّة بالبندقيّة الفلسطينيّة، ولا يزال يذكر لبنانيّون كثر مزايدة رئيس الحكومة عبدالله اليافي أمام تظاهرة شعبيّة إذ عبّر عن استعداد السلطة اللبنانيّة "لإعطاء المتطوّعين لتحرير فلسطين سلاحًا من الجيش اللبناني"، ولو أنّ السلاح الفلسطيني كان عاث بالبلاد فسادًا. ومن الطبيعي والحال هذه أن يتصاعد يومها قلق الكيانيّين اللبنانيّين من تحويل وطنهم إلى شيء ما لا يشبهه سيّما بعد وقوف أغلب القيادات الاسلاميّة آنذاك مع ياسر عرفات ضدّ من يفترض أن يكونوا شركاءها بالوطن. ومن حسن الحظّ أنّ زعامة رفيق الحريري بعد الحرب صوّبت البوصلة باتّجاه لبناني لا غبار عليه، ولو أنّ الرئيس الحريري حاول لسنوات تجنّب الاصطدام بالاحتلال السوري يومها، لعلمه بكلفته على لبنان، وعليه شخصيًّا. وكما هو معلوم، كان اغتيال الحريري الشرارة التي أطلقت أوّل ثورة في تاريخنا الحديث و هي ثورة الأرز و التي أدّت إلى إنهاء الاحتلال السوري و ظهّرت فكرة الانتماء اللبناني الصافي بأبهى حللها خارج قواعدها التقليديّة المسيحيّة.

باختصار رفيق الحريري نقل سنّة لبنان من مؤتمرات الساحل ورفض الكيان إلى لبنان أوّلًا و هذا ما يحسب له رحمه الله. ولكن الهويّة العابرة للحدود أطلّت مجدّدًا من الجانب الشيعي هذه المرّة، كأنّه كتب على لبنان ألّا يرتاح. أقصد هنا تحديدًا اندماج قسم وازن من الشيعة بنظريّة ولاية الفقيه، هي نظريّة دينيّة عابرة للدول، وهذا المشروع هو الأخطر على لبنان لأنّه يقوم على مزيج من الدين والقوميّة والإيديولوجيا أي أنّه يجمع تقريبًا بمعنى أو بآخر كلّ الافكار السابقة بنظريّة واحدة لا تعترف بالأوطان أو بحقّ الشعوب بتقرير المصير. عود على بدء، إذًا، من مؤتمر الساحل، وناصر، وعرفات، إلى إيران والوليّ الفقيه.

ما العمل، والحال هذه؟ نقولها بوضوح: الجمع بين استقرار لبنان، وولاءات بعضهم السياسيّة العابرة لحدوده مستحيل. فإمّا تتحوّل الهويّة الشيعيّة باتّجاه لبناني، كما فعل السنّة مع رفيق الحريري، ونلتقي كلّنا كلبنانيّين على الحياد والاستقرار؛ أو فلنفكّر بهدوء كمكوّنات لبنانيّة بفكّ الارتباط، كما حصل في تشيكوسلوفاكيا السابقة مثلًا. التصارح ضروريّ دون خجل كي نتفادى مئة عام أخرى من الاضطراب المستمرّ.