شربل صيّاح
دخل لبنان مرحلة جديدة عبر باب استحقاق الإنتخابات النيابيّة التي غيّرت التوازنات شكليًّا داخل البرلمان، إلّا أنّ المضمون يبقى في الممارسات. لن أدخل في عمق هذا الشّق، لكن جلّ ما يمكن قوله إنّ الرهان اليوم هو على الأحزاب السياديّة وممارستها في كلّ استحقاق، والأمل في أن يتصدّى السياديّون لأيّ تسوية قد تحصل على حساب البلد و مصيره.
وإذا كان الشّعب اللبناني يعتقد أنّ عمليّة الإقتراع هي أقصى مهامه الوطنيّة، فهو بالتأكيد مخطئ. فالشعب الذي وقع ضحيّة احتلال فكريّ متمثّل بانحدار مستوى التعاطي السياسي وبإدخال المغالطات على الخطاب السياسي اليومي، لا بدّ له قبل أيّ شيء أن يبدأ بالانعتاق من التعابير السفسطائيّة والمليئة بالمغالطات التي تهدف إلى تخديره فكريًّا وطمس واقع النظام الهجين الذي نعيش في ظلّه. ماذا وإلّا سيبقى مصيرنا مخطوفًا حتّى ينتهي بنا المطاف شعبًا بلا وطن وبلا هويّة.
على مدى سنين طويلة، طبّع الاحتلال، ومعه الإعلام، بعض المصطلحات الّتي ساهمت مع الوقت في تشويه الوقائع، على غرار مصطلح "المقاومة" للإشارة إلى حزب اللّه، لدرجة أنّه أصبح التعبيران مرادفين في أذهان بعض الأفراد، خصوصًا من هم غير متعمّقين بالتاريخ وبأحداث الأمس القريب.
إنّ زيادة "أل" التعريف على عبارة "مقاومة" لم تحصل بالصدفة أو عن عبث، لا بل هي في صميم عمليّة تغيير المعجم السياسي العام ومعه الخطاب والسلوك السياسي. فتكرار مصطلح "الـ" مقاومة أدّى إلى نسيان المعايير الأساسيّة الطبيعيّة لبناء الدولة وإلى التّطبيع مع فكرة وجود فصيل مسلّح خارج إطار الشرعيّة والتعامل معه على أنّه واقع لا بدّ ولا بديل له.
مثال آخر عن التعابير الفارغة السائدة هو "العيش المشترك": في فترة التحضير للانتخابات النيابيّة، سمعنا قادة حلف الممانعة يشدّدون على فكرة مفادها أن "لا أكثريّة و لا أقليّة" في المجلس. وفي هذا المنطق احتقارٌ لمبدأ الديموقراطيّة واستخفاف بنتائجها وبخيارات اللبنانيّين واستقواءٌ وقح بالسلاح.
هذا التعبير بالذات ظاهره ورديّ وباطنه مدسوس بالسمّ وبالتهديدات المبطّنة، ونتيجته تشويه ذهنيّة الشعب من خلال طرح معادلة تخيّر اللبنانيّين بين "التعايش" على طريقة الاحتلال وبقوانينه وبين سقوط لبنان على رؤوس أبنائه.
وللتوضيح ، العيش المشترك بحدّ ذاته ليس نظام حكم، بل هو في الواقع تعبير يعكس إرادة اللبنانيّين بكافّة اختلافاتهم للعيش معًا بدون أيّ تمييز، في ظلّ نظام يحترم هذه الاختلافات ولا يسمح لها بتعكير الأمن.
ونصل أخيراً إلى مصطلح "الاستراتيجية الدفاعيّة" الذي وُضع على طاولة حوار تجمع رؤساء أحزاب، منها من هو تابعٌ مباشرة إلى دول محور الممناعة. أُدخل هذا التعبير إلى المعجم السياسي لتشويه صورة الجيش ودوره وللانقضاض على دور المؤسّسات العسكريّة والأمنيّة. فأن نناقش مسألة السلاح غير الشرعي خارج إطار المؤسسات والسلطات التشريعيّة والتنفيذية والدستورية والقضائية هو ليس إلّا طعنًا في صميم الدولة وفي علّة وجودها.
لقد تقصّدت أستخدام تعبير "الاحتلال الفكري" لوصف الخطاب السائد على ألسنة سياسيّينا وشاشاتنا، وخصوصًا في السنوات الستّة الأخيرة، لأنّ تغيير الهويّة يبدأ بتغيير السلوك السياسي والخطاب اليومي، وإدخال هذه المصطلحات المفبركة إلى المعجم السياسي قد ساهم فعلًا بتشويه معايير بناء الدولة وبتدنّي مستوى النّقاش السياسي.
لقد تسبّب هذا الاحتلال الثقافي بعقم رهيب في الساحة السياسية، التي أصبحت اليوم عاجزة عن إنتاج قامات فكريّة وثقافيّة على غرار شارل مالك وغيره من الشخصيّات التي كانت مسألة الهويّة اللبنانيّة التاريخيّة المتميّزة هاجسًا ودافعًا لها.
ولذلك، لا يمكن أن ينهض لبنان إلّا إذا قام شعبه وخصوصًا المهتمّين بالشأن العام بثورة فكريّة داخليّة وبإعادة تصويب النقاش السياسي. فإذا بقيت أُسس النقاش السياسي باطلة ومغلوطة، عبثًا نحلم ببناء دولة ونظام جديدين قابلين للحياة وللاستمرار.