فؤاد مطران
بالأمس كان الشعار "الانتخابات النيابيّة"، اليوم أصبح "الانتخابات الرئاسيّة"، وغدًا أكيد نكون على موعد مع شعار جديد "يناسب المرحلة" ويصبّر الجمهور السيادي المعارض على المآسي والويلات التي جلبتها أو عمّقتها هيمنة الحزب الإيراني.
إنّها بكلّ بساطة سياسة شراء الوقت التي يعتمدها سياديّون نظرًا لعدم قدرتهم على اجترار حلول فعليّة للمأساة التي نعيش. هذا النهج، أي شراء الوقت وغياب القدرة على المبادرة بأيّة خطوة خارج الأطر التقليديّة المهترئة، بدأ اعتماده تدريجيًّا منذ السابع من أيار حين استخدم حزب اللّه سلاحه لقلب المعادلة، وأصبح الواقع الوحيد الجديد بعد تمكّن حزب اللّه تدريجيًّا من إتمام سطوته على مؤسّسات الدولة.
المنظّرون لهذه السياسة يحبّون العودة دائمًا إلى تجربة سابقة خلال فترة الاحتلال السوري. في ذلك الوقت لم يكن بإمكان السياديّين سوى انتظار تغييرات خارجيّة تعود عليهم بتداعيات إيجابيّة على صعيد الداخل، باعتبار أنّ القبضة السوريّة كانت قادرة على سحق أقلّ حركة في الداخل مهما كانت طبيعتها. وحينها كان الانتظار والتأمّل بحصول تغييرات دوليّة، هو الطريق الوحيد المتاح عمليًّا، إضافة إلى بعض التحرّكات على الصعيد الدولي من قبل بعض الناشطين في محاولة للتأثير على مراكز القرار، ونشاط قلّة من المناضلين في الداخل للحفاظ على نفحة أمل. في العام 2005، تحرّر لبنان فعلًا من الاحتلال السوري بعد تداخل عوامل خارجيّة وداخليّة أفضت إلى خروج جيش البعث. فاعتقد البعض أن سياسة "الصبر" تصلح لجميع الأزمنة ولا بدّ أن تأتي بثمارها مهما طال الزمن.
هذا الاعتقاد ليس خاطئًا تمامًا، ولسنا هنا في معرض الدفع باتجاه خوض مواجهات سياسيّة بغضّ النظر عن الظروف المحيطة بها. حتى بين عامي 2007 و2019، كان بالإمكان ايجاد مبرّرات لتبنّي نهج "واقعي" يفضّل انتظار ما قد تحمله الأيّام. ولكن السياسة الانتظاريّة لأجل غير مسمّى تصير كارثة عندما لا ترتبط باستراتيجيّة صمود واضحة، سيّما اذا ترافقت مع انهيار اقتصادي غير مسبوق، وتراجع ديموغرافي خطير كما هو الواقع اليوم، وبغياب أيّ مشروع لإدارة الأزمة على المستوى المباشر، أو لتقديم بدائل على المستوى البعيد.
وسياسة شراء الوقت سهلة. لا تتطلّب أيّ جهد سياسي وفكري اذ تكتفي برفع الشعارات وإيجاد التبريرات، من دون أن تترافق مع حدّ أدنى من المقوّمات لتتمكّن القاعدة الشعبيّة من الصمود. نعم صبرنا على الاحتلال السوري لبلادنا لسنوات طويلة وثقيلة، ولكن الفئة الأوسع منّا لم تكن تحت خطّ الفقر كما هو الحال اليوم. لم نكن بأفضل أحوالنا طبعًا، لكن الخدمة الطبيّة والتعليميّة كانت جيّدة، ولم تكن موجات الهجرة قياسيّة تفرّغ الجامعات من أساتذتها، والمستشفيات من أطبّائها. حتّى من كان منّا موظّفًا بالقطاع العام، كان قادرًا على العيش الكريم بالحدّ الأدنى، وهو ما لم يعد ممكنًا اليوم بطبيعة الحال.
ما حمله العام 2019 من أزمة اقتصاديّة غير مسبوقة غيّر المعادلة جذريًّا. الهجرة تفرّغنا بالمعنى الحرفي للكلمة، والأخطر ربّما أنّ فقدان الأمل يكسرنا نفسيًّا. من يطرح نفسه مدافعًا عن المجتمع ينبغي أن يملك تصوّرًا لإنقاذه، لا المزيد من الممارسات والشعارات التي جرّبناها بدل المرّة ألف. ومن أوهم شعبه بمطوّلات عن الدولة المركزيّة و"المؤسّسات"، عليه طلب المغفرة منه: أيّ عاقل يطلب من ناسه الاتّكال على دولة يتحكّم بها خصمه؟ ومن أراد تسليم أمنه واقتصاده ومستقبل أولاده لهذه الدولة وحكمها المركزي، عليه اليوم أن يفهمنا لماذا هي عاجزة عن القيام بأبسط واجباتها كإصدار جواز سفر.
فمن رفض ويرفض مصارحة مجتمعه بأن لا دولة قائمة اليوم، بل مجرّد أجهزة خاضعة للهيمنة الإيرانيّة، يساهم في تعميق مشاكله.
أمّا بعد الخروج من وهم المراهنة على الحكم المركزي، فيجب الإقلاع عن طرح شعارات فارغة تستخدم كحقنة مخدّرة بين الحين والآخر، والمباشرة قبل أيّ شيء آخر بالعمل على تأمين مقوّمات الصمود الاقتصاديّة والاجتماعيّة لشعبنا، مهما كانت الوسائل والأطر. نعلم طبعًا أن التغيّرات السياسيّة الكبرى بلبنان ترتبط عادة بتغيّرات تسبقها في الظروف الخارجيّة. ولكن هل يعي من ينتظر تبدّل هذه الظروف حجم التسرّب المدرسي لدى أبناء مجتمعه، مثلًا؟ وماذا يبقى للشباب اللبناني إذا لم يحصل على شهادة، أو فقدت الشهادات مستواها العلمي؟ هذه واحدة من المصائب التي تنتظرنا دون أن يتصدّى لها أحد على ما أعلم إلى الساعة.
أمّا لو استمرّ نهج العجز السياسي الإرادي، فهنا يأتي دور النخب البديلة لتتحمّل مسؤوليّاتها: فإمّا تدع مجتمعها يكمل مساره الانحداري نحو زوال حتمي، وإمّا تمسك زمام الأمور بيدها وتنخرط بالشأن العام وفق أسس مختلفة عن السائد حاليًّا. يمكن بعدها ترك الانتظاريّين بحالهم من دون إزعاجهم.