فؤاد مطران
يتمسّك المسيحيّون بدولة صاروا على هامشها، ولا يزال خطاب المظلوميّة حاضرًا بقوّة بين الشيعة، مع أنّ النواة الصلبة للنظام اللبناني منهم، ونخبهم ممسكة بقراراته الأساسيّة. قد يبدو هذا للبعض تردادًا لشعارات التحريض التي يلجأ لها التيّار العوني في محاولة لشدّ عصب المسيحيّين، سعيًا للحصول على "قطعة جبنة" أكبر عند تقاسم المغانم بين أقطاب النظام اللبناني. لكنّ مقصدنا بمكان آخر لا يمتّ بصلة للخطاب العوني وغاياته.
بصراحة: التمسّك المسيحي بحكم مركزي صارت الدولة المستندة إليه جثّة هامدة لم يعد مفهومًا. وهنا لا نتحدّث فقط عن الشعارات التي ترفعها الأحزاب التقليديّة، بل عن شعور وجداني وعاطفي يربط الرأي العام المسيحي بمؤسّسات أصبحت بحكم المنتهية، وبمشروع سقط.
كان بالإمكان إيجاد مبرّرات وتفسيرات لفهم هذا الرابط العاطفي خلال الفترات التاريخيّة السابقة، حين اعتبر المسيحيّون أنّ هذه الدولة كفيلة بحماية وجودهم لدى تأسيسها عام 1920، بالرغم من الخطأ الاستراتيجي المزدوج الذي ارتكبوه آنذاك وزرعوا بذور سقوطهم اللاحق، عنينا توسيع حدود الكيان بشكل غير مدروس، والرهان على حكم مركزي لإدارة مجتمع تعدّدي. ويمكن أيضًا فهم التعلّق المسيحي بالدولة لاحقًا، خلال مرحلة الجمهوريّة الأولى، حين كان حضورهم بالقرار وازنًا. أمّا اليوم فعلى ماذا يستند أنصار الستاتيكو، وبماذا يتأمّلون بعدما سقطت الدولة ومؤسساتها بشكل كامل تحت الهيمنة الإيرانيّة؟
بالحقيقة، كان ينبغي قطع الرابط العاطفي المسيحي مع الدولة المركزيّة بمجرّد أن بدأت الحرب عام 1975. لم يحصل ذلك، وقد كان للتمسّك بالحكم المركزي تبعات وخيمة في ما بعد. مثلًا، هلّلت شرائح واسعة من المسيحيّين لمن ارتدى بزّة ترمز لهذه الدولة، حتّى ولو أنّه سلّمهم لأخصامهم كما بدا لاحقًا، وتنكّرت هذه الشرائح لتضحيات أبنائهم من أجل بقائهم، لمجرّد أنّهم انتظموا خارج أُطر الدولة المنهارة. وبعد اندحار الاحتلال السوري عن لبنان عام 2005، عادت الشرائح المسيحيّة نفسها لموالاة أفسد الأحزاب اللبنانيّة، وبرّرت له سرقاته وفساده، علّه يعيد إليهم أمجادهم في الدولة، دع عنك أنّها مصادرة، وتاليًا غير موجودة.
نعلم اليوم كم كانت هذه الرهانات فاشلة، وها نحن أمام "دولة" لا تستطيع إصدار الوثائق الرسميّة لعدم قدرتها على شراء ورق المعاملات البسيطة. وعندما يكون الشلل بلغ هذا الحدّ، يخطئ من يظنّ أنّ تغيير شخص من هنا، أو وصول آخر إلى منصب هناك سيحيي العظام، وهي رميم. يفترض أن يكون ذلك بديهيًّا. لكنّ المشكلة أنّ اللعبة الشعاراتيّة الممجوجة مستمرّة هي هي، والتضليل مستمرّ بدوره. فكّر مثلًا بمقولات أوحت أنّ الانتخابات النيابيّة ستكون مفصلًا، وهي لم تكن كذلك؛ أو فكّر بتوقّعات يحرّكها الاستحقاق الرئاسي القادم الذي يزيّن البعض لنفسه أنّه سيقلب الأوضاع رأسًا على عقب، دع عنك أنّ حزب اللّه يتحكّم به من ألفه إلى يائه.
رُبّ قائل أن حسنًا، ما العمل؟ جوابنا أنّ أيّ مشروع استنهاض يفترض التوقّف عن اجترار طريقة بالتفكير جرّبناها وفشلت. أتحدّث هنا عن مسائل مثل الافتتان بـ"الصيغة"، و"الديموقراطيّة التوافقيّة"، و"لبنان الرسالة"، وما شاكل من شعارات. بالحقيقة، قطع الحبل السرّي مع هذه الشعارات، ومع الحكم المركزي العاجز الذي فرزته، هو خطوة أولى صوب تفكير جديد، يمكن أن يأخذنا الى إعادة تأسيس جدّي وجذري نحتاجه، لو تبدّلت موازين القوى الاقليميّة لمصلحة القضيّة اللبنانيّة. قد يبدو من الصعب تقبّل فكرة الانتفاضة على الحكم المركزي لمن عاش في ظلّه عقودًا، لكنّ هذا المسار هو الأمل الوحيد المتبقّي حاليًّا.