هشام بو ناصيف
قبل سنوات، قيل لنا إنّ مؤيّدي الشيخ أحمد الأسير اشتبكوا مع حاجز للجيش اللبناني في عبرا، وعمدوا إلى قتل عدد من عناصره. بسرعة حسم الجيش الوضع، وانتهى الأسير بالسجن، بعد أن اختفى لفترة. طوال فترة المحاكمة، لم يجب أحد على ما يلي: أمّا وأنّ الأسير كان بمواجهة صعبة ومباشرة مع خصم أقوى منه بكثير هو حزب اللّه، ما مصلحته بفتح جبهة ثانية مع الجيش اللبناني؟ السؤال بديهي، سيّما وأنّ الأسير نفسه أصرّ أنّه لم يشأ المعركة، وأنّ جهة ثالثة أطلقت النار على الجيش وعلى مؤيدّيه معًا، لتوريطهما. لم يحقّق أحد بهذه الفرضيّة، وبدا الأسير وحيدًا بمواجهة ماكينة تحترف تبكيل الملفّات، بما في ذلك التسريبات الاعلاميّة المدروسة، تمامًا كما كان سمير جعجع قبله في التسعينات. اليوم، تعيد قضيّة المطران موسى الحاج تظهير مشهد ألفناه من قبل: قاضي يتصرّف وفق أجندا سياسيّة واضحة، وجهاز أمني يتحرّك على الإيقاع نفسه، وحملة تسريبات وتهويل نفسي ترفدها التهم القديمة – الجديدة عن العمالة، والتواصل مع "العدوّ الصهيوني". وهذه المكوّنات الثلاثة، أي القضاء، والأجهزة الأمنيّة، والإعلام، مكوّنات كلاسيكيّة، إن صحّ التعبير، لما يوصف غالبًا ب"الدولة العميقة".
بالتعريف، الدولة العميقة هي شبكة أجهزة غير منتخبة في بيروقراطيّة الدولة تمارس دورًا سياسيًّا مباشرًا، قمعيًّا بالغالب، من خلال القضاء، والمخابرات، والجيش، أو أجنحة معيّنة في هذه المؤسّسات، على أن ترفدها من خارج جهاز الدولة الإداري امتدادات في الإعلام، وطبقة رجال الأعمال. أوّل دولة تخطر على البال هنا هي تركيا، حيث ظهر التعبير أساسًا، للاشارة الى شبكة من الجنرالات الأقوياء، وأجهزة مخابراتيّة، كلّفت نفسها حماية الإرث العلماني لأتاتورك، عبر استهداف الإسلاميّين خصوصًا، ولو من خارج الأطر القانونيّة. في مصر، الدولة العميقة تقاطع بين جهاز المخابرات العسكريّة التابع لوزارة الدفاع، وجهاز المخابرات العامّة المرتبط برئاسة الجمهوريّة، وجهاز مباحث أمن الدولة التابع لوزارة الداخلية، وامتدادت هذه الأجهزة في القضاء، والاعلام، والمتموّلين المتنفّعين من علاقاتهم السلطويّة. لم تكن صدفة، بالمناسبة، تعيين قاض، هو رئيس المحكمة الدستوريّة عدلي منصور، كرئيس صوري لمصر في مرحلة حسّاسة من تاريخها بعد انقلاب عبد الفتّاح السيسي عام 2013. وغالبًا ما يكون القضاة الرافد المدني والحليف الأوّل داخل جهاز الدولة للأجهزة الأمنيّة عندما تبدأ بتحريك الأحداث.
في لبنان، ربّما يكون الثنائي جميل السيّد / عدنان عضّوم في التسعينات أوّل من يطرأ على البال عند التفكير بالدولة العميقة. كان يفترض ب14 آذار إصلاح القضاء والأجهزة الأمنيّة "زمن العزّ"، ولكنّها لم تستطع. اليوم، يتساءل واحدنا ما إذا كان القاضي فادي عقيقي يتابع مسارًا بدأه عدنان عضّوم قبله. كما ينبغي التساؤل عن مدى اختراق النواة الصلبة للنظام اللبناني للأجهزة الأمنيّة، وما إذا كانت درجة الاختراق تصل إلى التحكّم الكامل ببعضها. ما هو أكيد بالمقابل، هو التالي: بالمحصّلة العامّة، الدولة العميقة في جهاز الدولة اللبنانيّة تعمل دومًا لمصلحة استتباع البلاد لجهات خارجيّة، سوريّة بالأمس، وإيرانيّة اليوم، عبر أدوات محليّة. وبمقدار ما تشتدّ سيطرة الخارج على لبنان، بمقدار ما تتغوّل الدولة العميقة على اللبنانيّين. الأكيد أنّ قضاءنا بحاجة لإصلاح، كما الأجهزة الأمنيّة. وبهذه المسألة، كما بالمواضيع الأساسيّة الأخرى، لا يمكن الفصل بين المسألتين السياديّة والاصلاحيّة.