عن مسيحيّي لبنان، وسنّته: كي لا ننتحر

هشام بو ناصيف

شكّل النقاش الذي دار حول مسألة بلديّة بيروت مناسبة لتجديد صراع الخاسرين بسياسة لبنان، عنيت مسيحيّيه وسنّته. لا ضرورة للتذكير أنّ حزب اللّه هو الحزب الحاكم في بيروت، وأنّ النواة الصلبة للنظام اللبناني شيعيّة. ومن المهمّ خصوصًا ألّا ننسى النسبة التي حصدها تحالف حزب اللّه وأمل في الانتخابات الأخيرة: 95% من التصويت الشيعي. من يظنّ أنّ هذا الرقم يحقّقه شراء أصوات من هنا، أو تهديد ناخبين من هناك، مخطئ. ما يسمّى بـ"المعارضة الشيعيّة" خرافة. الطائفة موحّدة خلف نخبها، ووحدة الصفّ الحديديّة هذه تعبير عن إرادتها الاستئثار بالسلطة. تمامًا، بالمناسبة، كما أنّ وحدة الصفّ العلوي وراء النظام السوري تعبير عن الرغبة نفسها. هكذا صراع الهويّات في هذه المنطقة من العالم، واحتمالات التغيير مقفلة إلى أجل غير معلوم.

لا تتّسع هذه العجالة للتعمّق بتحليل محطّات الصعود الشيعي بالعقود الأخيرة. يمكن القول باختصار إنّ مسار السيطرة الشيعيّة بدأ مع تشكيل موسى الصدر لميليشيا أمل؛ ثمّ فتحت دمشق الطريق واسعة أمامه بعد استشهاد الرئيس بشير الجميّل، وسقوط اتفاقيّة 17 أيّار؛ قبل أن تكرّسه حقبة السلام السوري بعد الحرب. الرئيس الشهيد رفيق الحريري تحدّى الستاتيكو الفئوي، وداعميه. استشهاده، وسلسلة الاغتيالات التي تلته، أماط اللثام عن الوجه الحقيقي للنظام اللبناني الجديد، وعن حجم العنف الذي يمكن لأصحابه استعماله لو تهدّد. ليس تحريضًا القول إنّ السيطرة الفئويّة على لبنان قامت على ركام مشروعي بشير الجميّل، ورفيق الحريري، وأيضًا، على جثتيّهما. أّلّا يعي مسيحيّو لبنان وسنّته ذلك، مصيبة؛ أمّا أن يعوا ذلك، ويفشلون بتوحيد صفوفهم لمنع شطبهما معًا من المعادلة، فالمصيبة أعظم.

والحال أنّ كلًّا من الطائفتين يمعن بظلم الجماعة الأخرى، ونفسه. قسم غير قليل من المسيحيّين لا يريد أن يرى ما هو واضح كقرص الشمس في السماء، عنيت الاستهداف غير المعقول الذي يتعرّض له سنّة الاقليم، خصوصًا في سوريا والعراق. بالحقيقة، مدن سنّة المشرق ركام، من الموصل إلى حلب، ومن حمص إلى حماة. الحشد الشعبي يخنقهم بالعراق. ولو يستطيع بشّار الأسد إبادتهم في سوريا، لفعل. ويل السنّة لو استسلموا للأسد، والحشد الشعبي، ومن خلفهما إيران؛ مدى حقد كلّ هؤلاء عليهم مخيف. وويلهم أيضًا لو قاوموا، باعتبار أنّ التهمة الفوريّة جاهزة: إرهابيّون، أصوليّون، داعش، الخ. أمّا في لبنان، فتفاقم الرداءة غير المعقولة لنخب الطائفة أزمتها، علمًا أنّ بحثها عن قيادة مستمرّ منذ 2005. حقّ الطائفة أن تخاف عندما ترى، من جهة، مدى التوحّش والحقد الذي يحيط بها، ومن جهة ثانية، تهافت نخبها وضعفها. قسم غير قليل من المسيحيّين لا يريد أن يرى ما سبق، ولو رآه، لا يأبه. هذا التوجّه، الذي يجد تعبيره الأسمى بالمدرسة العونيّة، ليس حكيمًا.

بالمقابل، يمعن سنّة كثر باستفزاز المسيحيّين ما يحرج حتّى أصدقائهم بينهم. أوغل فلسطينيّون بالدم اللبناني المسيحي بالحرب، ولكنّ زجليّات القدس، وفلسطين، والحرب إلى الأبد مع "العدوّ الصهيوني"، لا تزال إلى الساعة حاضرة بالخطاب السنّي، بما فيه عند النوّاب السنّة "التغييريّين". لا يفهم بعض السنّة، أو لا يريدون أن يفهموا، أوجاع الذاكرة المسيحيّة وأثقالها، والحساسيّة الاستثنائيّة التي تثيرها عند المسيحيّين زجليّات فلسطين السليبة. الموقف السنيّ من الفدراليّة، أو حتّى اللامركزيّة، مؤشّر سلبي آخر، خصوصًا عندما يستسهل استخدام مفردات التقسيم وتهمه. يمكن لواحدنا أن يفهم الاعتراض السنّي لو زعم مسيحيّون إدارة الأمور بطريق الجديدة، مثلًا. ولكن أن يطالب المسيحيّون ببلديّة للأشرفيّة، فتقوم القيامة، ويكاد المفتي يعلنها جهادًا لمنع "تقسيم بيروت" فغير مفهوم. وقبل كلّ ذلك، فشل سعد الحريري بإدارة العلاقة أوّلًا مع ميشال عون، ولاحقًا مع سمير جعجع. بدا بوضوح أنّ المسيحيّين الذين يقبلهم الحريري هم على شاكلة غطّاس خوري. أمّا أقوياء الموارنة، فلا يستطيع التفاهم مع أيّ منهم. وبنهاية المطاف، المسيحيّون طائفة تصارع كي تبقى. أزمتهم الديموغرافيّة على خلفيّات موجات رحيل – هي أقرب إلى التهجير منها إلى الهجرة – تهدّد استمراريّتهم حتّى بمعاقلهم. هل يتخيّل أحد أنّ سعد الحريري، أو أحمد الحريري، يعيران الموضوع ثانية من وقتهما، على افتراض أنّهما أصلًا على دراية به؟

السياسة تحرّكها وتضبطها موازين القوى. بالموازين الحاليّة، لا يستطيع المسيحيّون وحدهم إيقاف المشروع الشيعي، ولا السنّة قادرون على ذلك. هذا أكيد. ما هو أكيد أكثر، هو التالي: لو يرسّخ حزب اللّه حكمه للبنان، فسيعيش السنّة فيه كما "يعيش" أقرانهم بسوريا، بينما تبتلع المغتربات ما بقي من المسيحيّين. ليس هذا المستقبل القاتم قدرًا، بطبيعة الحال. وكي لا يكون كذلك، آن للتهريج أن يتوقّف من الجهتين.