الرابع من آب: كيف نكون أوفياء حقًّا لشهدائنا

هشام بو ناصيف


من الناحية القانونيّة، لم نعلم أسماء المتورّطين باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري حتّى صدرت الأحكام الدوليّة، بعد سنوات على رحيله المدوّي. ولكنّنا كنّا نعلم بالقراءة السياسيّة من اللحظة الأولى هويّة المسؤول عن قتل الحريري، قبل توفّر التفاصيل لاحقا. هناك شيء من هذا يصحّ أيضا بقضيّة تفجير مرفأ بيروت وتدمير الأشرفيّة الذي تبعه: تقنيّا، الفاعل مجهول الى الساعة. ولكن كلّ ما يلي ليس مجهولا: 1) هويّة النظام الاقليمي الذي استعمل النيترات لقصف شعبه. 2) هويّة امتدادات هذا النظام بلبنان. 3) الجهة اللبنانيّة التي عرقلت التحقيق من لحظته الأولى، بما في ذلك تهديد القضاء مباشرة. 4) التقارير الدوليّة المتتالية التي وثّقت رحلة النيترات الى لبنان، والجهات خلفها، فضلا طبعا عن مخزنّي النيترات في بلادنا والخارج. هناك تفاصيل كثيرة عن كلّ ما سبق صارت معلومة، وهناك أخرى لا تزال مجهولة. ولكن تورّط ما اصطلح على تسميته ب"محور الممانعة" بمأساة الرابع من آب محسوم.

منذ سنتين، نعلم أنّنا لا نزال على قيد الحياة بالصدفة. قضى الياس خوري، وألكسندرا النجّار، وجو نون، وعلي مشيك، وأكثر من 220 من مواطنينا في ذلك اليوم المشؤوم؛ كان يمكن لكاتب هذه السطور أن يكون منهم، أو لأيّ من الذين سيقرأون هذا المقال. دراما الموت لا تلغي عبثيّته. ولكن ان اختار النيترات ضحاياه عشوائيّا، فوصوله الى بيروت لم يكن كذلك. هناك جهة استجلبته لوظيفة محدّدة؛ شهداؤنا، ومعوّقونا، وكلّ ضحايا الانفجار هم أوّلا ضحايا هذه الجهة. أن نقول أنّ الاشتباك السياسي معها شكل من أشكال الوفاء للضحايا صحيح، ولكن الصحيح بعد أكثر هو هذا: لا يمكن أن نكون أوفياء لهم فعلا بمعزل عن هذا الاشتباك.

بهذا المعنى، كلّ تعميم للمسؤوليّة تجهيل للفاعل. وليد جنبلاط بالتأكيد من "المنظومة"، أليس كذلك؟ ولكنّه لم يأت بالنيترات الى بيروت. سعد الحريري أيضا من المنظومة. ولكنّه لم يهدّد القضاء لضرب التحقيق. هول ما جرى ذلك النهار في المرفأ يفوق ما عداه. تاليا، المواجهة مع مستوردي النيترات تطغى منطقيّا وأخلاقيّا على أيّ اعتبار آخر. من يتجنّبها لأنّه مشغول جدّا بمعركته مع أصحاب المصارف (مثلا) حليف موضوعي للقتلة. أيّا تكن اعتباراته، دماء ضحايانا على رأسه هو أيضا.

الخلاصة أنّ الوفاء لمن فارقونا قبل أوانهم، ومنهم من رحل في زهرة عمره، يفترض أوّلا قراءة المأساة بخلفيّتها السياسيّة، ثمّ التموضع استنادا لهذه القراءة. كما يفترض الموقف الأخلاقي من مأساة الرابع من آب رفض الهزيمة النفسيّة أيّا تكن صعوبة المرحلة، والتغلّب على الخوف ولو أنّ من اغتال مدينة بأسرها لا يتورّع عن قتل أفراد. "صفر خوف" ليس المسألة هنا؛ هو معطى انساني طبيعي لا مفرّ منه. ولكن هناك من يراهن على الخوف كي ينفينا من الشأن العام، وبصلبه قضيّة الرابع من آب. نقول لغيلان تدرج بين الناس كبشر أن فشرتم: المواجهة مستمرّة.