خطاب الممانعة: مرحلة ما بعد التقيّة

هشام بو ناصيف

"أنا اللّه مكلّفني" ... "نحنا اللّه مكلّفنا" ..."ليش أنت انسان؟". من النادر أن نقع بتاريخ لبنان المعاصر المليء بالنفاق والازدواجيّة على خطاب بهذا الوضوح. بالحقيقة، ما يطبّقه حسن نصراللّه اليوم، هو ما أعلنه سمير جعجع ذات مرّة: "الأمر لي".

نعيم قاسم قال البارحة شيئا مشابها. بعد تقريع الجاحدين الذين لا يحمدون ربّهم على نعمة المقاومة، ختم بكلمات معبّرة جدّا: "على كلّ حال، يلّي طالع بايدكم اعملوه".

يرفد هذا الخطاب الواضح "من فوق"، كلام بعد أوضح من تحت. لا نعلّق على الهراء الممانع الذي تتلقّاه صفحة الفدرالي، ولكنّنا نلاحظ بتعليقات أنصار الثنائي منطقا يتردّد بشكل يكاد يكون يوميّا مفاده أنّ من لا يعجبه خطّهم عليه مغادرة لبنان. "التعايش" كما يفهمه هؤلاء يعني عمليّا الاستقالة من السياسة وتسليم القرار للنخبة الحاكمة الشيعيّة. من يقبل هذه المعادلة من السياسيّين يمكن اشراكه باللعبة من خلال مناصب تسهّل الثراء السريع لأصحابها، كما تسمح بنوع من وجاهة اجتماعيّة يحبّها المفتونون بألقاب السعادة والمعالي. استطرادا، من يقبل معادلة الغلبة من الناس العاديّين يمكن تركه وشأنه؛ هكذا بالمناسبة تتعاطى الجمهوريّة الاسلاميّة الايرانيّة مع من بقي فيها من أرمن ويهود. بالمقابل، من يتمرّد على توجّه أسياد البلاد هو بالضرورة عميل يواجه بدعوات الطرد، والعنف اللغوي، أو بالعنف الجسدي، حسب الظرف والحاجة.

ولسنوات طويلة بعد الحرب، قدّم حزب اللّه نفسه كمكوّن لبناني يلعب اللعبة بحدودها المعروفة. العلم اللبناني حضر بمشهديّته، وخطاب التودّد للطوائف الأخرى كذلك. ثمّ أنّ الحزب حسم بعد تردّد مسألة المشاركة بالانتخابات النيابيّة عام 1992، ولاحقا بالحكومة. أوحى الحزب أنّه "يتلبنن" فيما الحقيقة أنّ لبنان كان "يتحوزب". كانت هذه مرحلة المواربة والتقيّة، قبل استتباب الأمور بعد عقود. العقبة الحقيقيّة أمام السيطرة التامّة كان تحالف 14 آذار، بشعبيّته الضاربة يوما، وامتداداته داخل لبنان، وخارجه. كميّة العنف التي تلقّتها 14 آّذار، تعكس حجم القلق الذي شكّلته لمن اعتبر أنّ وقت القطاف حان بعد سنوات العمل الدؤوب، والتمكين. ثمّ كان اجتياح بيروت والجبل عام 2008، واتّفاقيّة الدوحة، ومنطقها شديد الوضوح: رضوخ 14 آذار مقابل وقف الاغتيالات. من يومها، دخلنا مرحلة جديدة، كثّف بؤسها وفاقمه وضع الحزب يده على رئاسة الجمهوريّة عام 2016.

أبعد من السلاح وتبعاته، يفاقم صعوبة المرحلة فشل أخصام الثنائي بادارتها. فكّر بالقطيعة المستمرّة بين القوّات والكتائب، مثلا. كيف يمكن تبريرها؟ فكّر بانتحار تيّار المستقبل السياسي، والفراغ المؤسف الذي خلّفه. فكّر أيضا بطعن وليد جنبلاط للبطريركيّة المارونيّة بظهرها بعزّ اشتباكها مع حزب اللّه، قبل أسابيع. أمّا ما اصطلح على تسميته ب"التغييريّين"، فحركتهم تصبّ موضوعيّا بمصلحة الحزب، أوّلا لأنّهم يصرّون على التعامل معه كمجرّد مسألة من ضمن مسائل أخرى ينبغي التصدّي لها في لبنان؛ وثانيا لرفضهم أيّ تنسيق مع قوى سياديّة كالقوّات، أو الجنرال أشرف ريفي، باعتبارها من "المنظومة". فاذا ما أبقينا بالذهن أنّ شيعة لبنان صوّتوا بنسبة 95% للثنائي، بدا المشهد واضحا بمعنى أنّنا، من جهة، أمام قوّة معبّأة، مسيطرة تماما على قواعدها، ومتوثّبة للامساك بالقرار كاملا؛ ومن جهة ثانية، أمام مجموعة جزر بدون مشروع واضح، غالبا ما تبدو خلافتها الضيعويّة أقوى من خصامها المفترض مع الثنائي.

خطاب النصر الذي أشرت اليه في مطلع هذا المقال طبيعي جدّا والحال هذه، بل مفهوم. يبقى أنّ النصر سهّلته ظروف سياسيّة محدّدة، واداء سيّئ لنخب تصدّت لمهمّة نبيلة عام 2005، دون أهليّة لها. تستطيع الظروف السياسيّة أن تتغيّر، والوقت يفرز لا محال نخبا جديدة. الهزيمة السياسيّة ليست قدرا اذا ما تجنّبنا الهزيمة النفسيّة.