هشام بو ناصيف
أصرف وقتًا منذ يومين على قراءة تعليقات المتابعين الدروز لفايسبوك وليد جنبلاط والتويتر الخاصّ به. المعترضون على خطواته الأخيرة موجودون، ولكنّهم قلّة. القسم الأكبر من التعليقات التي قرأتها تبايعه، وتدعو له بطول العمر. ومع الاقرار أنّ انطباعات السوشال ميديا ليست بديلًا عن احصاءات الرأي، تقديري أنّ رفع جنبلاط الراية البيضاء أمام حزب اللّه لن يهزّ زعامته جديًّا. سيقنع مناصرو جنبلاط أنفسهم هذه المرّة، كما كلّ مرّة، أنّه يقوم بما يقوم به من أجل حماية الطائفة. سيردّدون أنّه يعلم ما يفعل، وهو "قاشع شي نحنا مش قاشعينو". سيجدّدون البيعة، بمعنى آخر. ثمّ تبدأ السياسة اللبنانيّة دورة جديدة من دوراتها الغنيّة بالأحداث، والفقيرة بالمعنى.
بالحقيقة، ارتكب وليد جنبلاط منذ سنوات سلسلة أخطاء قاتلة كانت تكفي لهزّ الثقة به، لو أنّ هزّها متاح. فكّر باجتياح الجبل وأحداث العام 2008، على سبيل المثال لا الحصر. يومها، هدّد جنبلاط بالاستقالة من حكومة السنيورة إن لم تصادر شبكة الاتّصالات التابعة لسلاح الاشارة الخاصّ بحزب اللّه، فضلًا عن إقالة قائد أمن مطار بيروت الدولي العميد وفيق شقير، قبل أن ينقلب على نفسه بسرعة ليهدّد بالاستقالة من الحكومة إن لم تتراجع عن القرارات عينها. قال جنبلاط لاحقًا، بالحرف:"افتعلت 7 أيّار، وأخطأت بالحسابات". هذا الخطأ بالتقدير نتج عنه آنذاك خمسة أيّام من القتال خلّفت وراءها 49 قتيلًا و140 جريحًا، منهم دروز كثر. ولكنّ صيت القارئ الحذق للسياسة بقي هو هو.
قبل ذلك، وجّهت حسابات جنبلاطيّة من نوع آخر ضربة لتحالف 14 آذار قضت عليه بمهده عام 2005. أيّ معرفة ولو بسيطة بسيكولوجيا الجماعات اللبنانيّة تفيد أنّ المسيحيّين عاشوا المرحلة الممتدّة بين 1990 و2005 كعقاب جماعي. ما كان يمكن لهم أن يقبلوا بعد نهاية الحقبة السوريّة البقاء على هامش السلطة كما كانوا عليه أثناءها. منطقيًّا، كان على جنبلاط آنذاك أن يتفاهم مع ميشال عون حفاظًا على وحدة القوى السياديّة التي شكّل التيّار الوطني الحرّ رأس حربتها لسنوات بعد نهاية الحرب، أو أقلّه أن يسعى لذلك. لكنّ نزعة كراهية الموارنة كانت أقوى. وبدل توحيد الصفّ لاستكمال المعركة السياديّة ضدّ السلاح غير الشرعي بعد اندحار جيش الأسد، رأى جنبلاط أنّ الوقت مناسب للتفاهم مع حزب اللّه، وأمل، والحريري، في مشهد أوحى أنّ مسلمي لبنان قرّروا إبقاء مسيحيّيه حيث وضعهم حافظ الأسد. كان الردّ المسيحي بالتسونامي العوني الشهير آنذاك، وبذبح مسيحيّي 14 آذار الذين بدوا كملتحق ذيلي بحلف المسلمين. وإن كانت مصائب لاحقة كاتفاقيّة مار مخايل، أو اتّفاق معراب، كرّست سيطرة الحزب على لبنان، فالجذر الأوّل لهذا المسار الانحداري يعود لأداء وليد جنبلاط وخطابه بالفترة الممتدّة بين عودة ميشال عون من المنفى في أيّار من العام 2005، والانتخابات النيابيّة التي تبعتها. لم يكن أيّ من ذلك ذكيًّا. ولا كان وصف الموارنة بالجنس العاطل وسط قهقهة رجال دين دروز وحبورهم الواضح حكيمًا. وليس مقنعًا اليوم رفع الراية البيضاء مقابل وزارة الشؤون الاجتماعيّة وفتات سلطة قد يتكرّم حسن نصر اللّه بها على من صار عمليًّا وئام وهّاب آخر بالجبل. وإن كانت الحجّة أنّ الخارج "تخلّى عنّا" – وهي ليست دقيقة، بالمناسبة – فلا غرو أن يفعل ذلك وأداء معارضي حزب اللّه في لبنان يزاوج منذ سنوات الخفّة، مع الجبن، مع قلّة البصيرة.
كيف يمكن لسياسي عادي كجنبلاط أن يتمتّع بصيت القارئ الاستثنائي للسياسات الدوليّة، وصاحب الرادار الذي يستشعر المتغيّرات عن بعد؟ يبدأ الجواب المتشعّب بخرافات يطيب للطوائف اللبنانيّة نسجها عن نخبها؛ وبسيطرة هذه النخب على صورتها أمام العامّة عبر تحكّمها بوسائل الاعلام؛ وبغياب الصحافة الاستقصائيّة التي تقدّم للقارئ أو المشاهد القادة كما هم عليه فعلًا، لا كما يريدون لأتباعهم أن يروهم؛ وصولًا طبعًا للانهيار الأكاديمي والفكري الذي صنعته الحرب اللبنانيّة وخلّف وراءه جيشًا من السذّج يسهل خداعهم رغم كونهم تقنيًّا من حملة الشهادات. فإذا ما أضفنا إلى كلّ ما سبق عقدة الأقلويّة المستحكمة بالمكوّن الدرزي، والحاجة للتعويض عن انكماش العدد بعملقة القادة، يمكن فهم صناعة صورة جنبلاط، وتسحيرها.
وعمومًا، إن كان جنبلاط انهار، فبكركي صامدة، وحولها قطاع واسع من اللبنانيّين خيارهم متابعة المواجهة السياديّة، بوليد جنبلاط أو بدونه. المهمّ ألّا يتحوّل النفور الشديد الذي بات هذا الرجل يثيره إلى نفور من مؤيّديه. عواطف هؤلاء بالنتيجة مع لبنان. وليد جنبلاط يستخدمهم؛ وهذا مؤسف. ولكنّ الخطر الوجودي على بلادنا ليس منهم.