مصر– لبنان– تونس: إقفال الأفق العربي

هشام بو ناصيف

تلخّص مستجدّات ثلاثة في الأيّام الأخيرة أزمة الليبراليّة بالعالم العربي. في مصر، أصدرت لجنة البحوث الفقهيّة بمجمع البحوث الإسلاميّة في الأزهر بيانًا حدّدت فيه موقف الأزهر من مسألة جواز ضرب المرأة في الإسلام، وهو الموضوع الذي يثير جدلًا مستمرًّا في الفضاء العربي. اعتبرت اللجنة أنّ ضرب الزوجات محظور، قبل أن تردف: "ولا يجوز اللجوء إليه إلّا إذا فرضته ضرورة إنقاذ الأسرة من الضياع بسبب نشوز الزوجة واحتقارها لزوجها والتعالي عليه والتجاوز في حقّه، لتكون إباحته في تلك الحالة من باب اختيار أهون الشرّين".

من الصعب ألّا يشعر واحدنا بالذهول أمام النصّ الأزهري الذي يثير أسئلة بديهيّة أكثر ممّا يردّ عليها: مثلًا، إذا كانت "الضرورة" تبيح ضرب الزوجة، فمن يحدّد ما إذا كانت حالة معيّنة تدخل ضمنها؟ بمعنى آخر: من يعرّف "الضرورة"؟ الجواب، بطبيعة الحال، هو الزوج نفسه. ومن يقرّر ما إذا كان أمر معيّن يشكّل "نشوزًا" و"احتقارًا"؟ الجواب، تكرارًا، هو الزوج. ثمّ كيف يعني أنّ الضرب يمكن أن "يحفظ الأسرة من الضياع"؟؛ وكيف يعني أيضًا أنّ أنواعًا من الضرب لا تمسّ بكرامة المرأة إن لم يكن مبرحًا؟؛ وأساسًا، بمجرّد إباحته، أيّ ضمانة ألّا يكون مبرحًا فعلًا؟ عمليًّا، يضع الأزهر الزوج بمكان يصحّ فيه القول عنه: "فيك الخصام/ وأنت الخصم والحكم". أيّ حماية ممكنة للزوجة بعد ذلك، والحال هذه؟

ليست المسألة تفصيلًا. المرأة نصف المجتمع، والمسلمون غالبيّة العرب. للمسار الذي تأخذه القضيّة الجندريّة بأيّ بلاد تأثير عميق على اتّجاهاتها عمومًا، صعودًا أم هبوطًا. من جهة ثانية، مسار المسلمين العرب يؤثّر عليهم، وعلى سواهم من مواطنيهم؛ مأزق تفسير النصّ الديني يعني مجتمعاتنا ككلّ.

تثير قضيّة السيّد المعمّم حسين علي الحسيني في لبنان ذهولًا مضاعفًا. هيئة التبليغ الديني في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى اتّهمته بما لا يقلّ عن الخروج من "النظام الاسلامي العام بطريقة التهتّك الفاضح"، مضيفة أنّه حاول "الصاق ثقافة منافية للاسلام بدين الاسلام، والاسلام منه براء". ذنب الحسيني؟ ظهر ببرنامج تلفزيوني جهر فيه بحبّه لموسيقى فيروز، نافيًا مقولة "صوت المرأة عورة"، قبل أن يعزف البيانو. قبل أسابيع، ضجّ لبنان بفضيحة بيع الجامعة الاسلاميّة التابعة للشيعي الأعلى شهادات مزوّرة لطلّاب عراقيّين. بالنتيجة، أعفي مدير عام الشيعي الأعلى نزيه جمّول من منصبه، دون أن نسمع من المجلس بيانًا يكفّره والمرتكبين؛ ولكنّ الشيخ الذي يحبّ الموسيقى الهادئة استحّقه. أيّ مستقبل ممكن لشيعة لبنان، وللبنان نفسه، في ظلّ هذه العقليّة؟

أمّا في تونس، فانقلاب الطاغية قيس سعيّد على ما بقي من المكتسبات الديموقراطيّة لثورة الياسمين يكتمل. آخر جرائم سعيّد حلّ مجلس القضاء الأعلى، ومنح نفسه صلاحيّات واسعة تشمل عزل القضاة وتعيينهم. اذا ما أضفنا ذلك إلى الاجراءات السابقة بالأشهر الماضية، عنيت "تعليق" عمل مجلس النوّاب، وإقالة الحكومة، وفرض حالة الطوارئ، يصبح مدى انقلاب سعيّد على المسار الديموقراطي الوليد لتونس جليًّا. المأساة الأكبر أنّ إعلان حلّ مجلس القضاء الأعلى مرّ مرور الكرام، عدا تظاهرة خجولة في العاصمة تونس. وكلّ من راهن منذ أشهر على ردّة فعل شعبيّة تنتصر للديموقراطيّة، وترفض المزيد من مركزة السلطة بيد القادم الحديث إلى نادي الطغاة العرب، خاب ظنّه، أقلّه الى الساعة.

حدث كلّ ما سبق في أيّام، وهي عموما ثقيلة في فضائنا. الحال أنّ آفاق الاصلاح الديني، واللبرلة، والتحوّل الديموقراطي كلّها مقفلة عندنا. ولا يعني ذلك بالضرورة أنّ ظلامنا سيبقى دامسًا مدى الدهر، لا محالة؛ ولكنّ الضوء بآخر النفق لم يظهر بعد.