أفكار لبنانيّة في الزمن الضائع

هشام بو ناصيف

المبادرة الخليجيّة تجاه لبنان سقطت، ولعلّها تكون الأخيرة قبل اكتمال عزلتنا العربيّة. بالمقابل، المفاوضات مستمرّة في فيينا بين الولايات المتّحدة وإيران، والقلق من انعكاساتها على لبنان مبرّر تمامًا. وبانتظار جلاء الصورة، تنهار الدولة كلّ يوم أكثر في الزمن اللبناني الضائع. كان ملفتًا، في هذا المجال، تعميم وزارة الخارجيّة على سفاراتنا بالخارج ضرورة البحث عن متبرّعين من الجاليات لابقائها مفتوحة. ملفت بدوره ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكيّة المستمرّ، مع أنّ الدولار تراجع منذ تجاوز الـ30 ألفًا قبل أسابيع. لماذا يستطيع التجّار التمادي بسرقة اللبنانيّين؟ لأنّ لا دولة لردعهم، بكلّ بساطة. يظنّ البعض أنّنا، عندما نطالب بالسيادة، نتمسّك بشعار نظري أو "يميني". بالحقيقة، غياب السيادة يعني اندثار الدولة، والبديل عن هذه لم يكن يومًا سوى العنف السياسي والاقتصادي. وأمّا العنف السياسي، فقد بات روتينيًّا، من الاغتيالات المتكرّرة لوجوه لبنانيّة سياديّة، إلى استعمال القمع المباشر لضرب العاميّة اللبنانيّة عام 2019. وأمّا العنف الاقتصادي، فترك المستهلك وحيدًا أمام جشع التجّار والكارتيلات والمصارف شكل من أشكاله العديدة.

نعلم، كأبناء دولة صغيرة، أنّنا نتأثّر بالسياسات الاقليميّة والدوليّة الكبرى دون أن نؤثّر بها. ولكنّ هذا لا يعني أن نستقيل من بلدنا إلى ما شاء اللّه. ما العمل اليوم؟ لنبدأ أوّلًا بما ينبغي تجنّبه، وأهمّه اثنين: 1) الاستسلام والهزيمة النفسيّة. صحيح أنّ المرحلة الحاليّة أصعب سنوات تاريخنا المعاصر؛ يبقى أنّها هذا تحديدًا، أي مرحلة. أمات العثمانيّون أهلنا جوعًا في الحرب الكبرى، ولكنّنا بقينا. كلّ يوم من أيّام جيش حافظ الأسد في بلادنا كان كابوسًا؛ ولكنّه انتهى. وهذه المرحلة أيضًا ستنتهي – لا مكان لليأس في قلوبنا. 2) الاستسلام للغريزة الحزبيّة أو الجماعاتيّة. قدّمت بعض ردود فعل مناصري سعد الحريري مشهدًا مؤسفًا على صفحات التواصل الاجتماعي بعد اعتكافه الشأن العام. الحريري نفسه ذكر الهيمنة الايرانيّة على لبنان كسبب من أسباب قراره – ولكنّ جزءًا من مناصريه صبّوا غضبهم على سمير جعجع. كان هذا مشهدًا من مشاهد تضييع البوصلة الذي تكرّر منذ كانت 14 آذار في أوجها، حتّى آلت الأمور إلى ما آلت اليه. وبقدر ما يستسلم اللبنانيّون إلى هذا النوع من السلوك الجماعاتي المتوتّر، بقدر ما تترسّخ سيطرة الخارج عليهم. إن كان تاريخنا المعاصر يعلّمنا شيئًا، فهو هذا: الاحتلال الخارجي هو الوجه الآخر للاستقطاب الداخلي، ونتيجته الطبيعيّة.

ما ينبغي القيام به، بالمقابل، هو التالي: 1) تنظيم الصمود عبر الدعم المادّي لعائلات الطبقات الوسطى المنهارة. أهمّ ما ينبغي حمايته في هذا المجال هو الحقّ بالتعليم. في الدياسبورا ما يكفي من اللبنانيّين المعنيّين بمساعدة اخوانهم في الداخل، شريطة إيجاد الأطر المنظّمة التي توحي بالثقة. لا شيء مهمّ لمستقبل مجتمعنا أكثر من هذه النقطة تحديدًا. 2) أن تكون استعادة السيادة الوجه الأوّل لمعركتنا من أجل البقاء – كي يدرك الاحتلال والمجتمع الدولي معًا أنّ اللبنانيّين لم يرفعوا الراية البيضاء، ولن يفعلوا. يستطيع المجتمع الدولي أن يتجاهل قضيّتنا لفترة، ولبنان نادرًا ما كان من أولويّات العالم الحرّ والديموقراطيّات الليبراليّة التي ننتمي إليها إيديولوجيًّا. ولكنّ أحدًا لا يستطيع إرغامنا على التسليم بفقدان سيادتنا الوطنيّة أو تجاهل القضيّة اللبنانيّة إلى الأبد. 3) التفكير البارد بعورات نظامنا السياسي والتحضير للبديل، ولو نظريًّا. لا فكرة تتحوّل إلى مشروع بغياب الظروف المناسبة لو أتت؛ ولكنّنا سنهدر هكذا ظروف (مجدّدًا) إن لم نكن نعلم ما نريد لبلادنا.

باختصار، لا حلّ قريب للبنان، صحيح، ولكنّ الهزيمة الدائمة ليست قدرًا. القضيّة اللبنانيّة لن تموت إلّا إذا قتلناها نحن بالتخلّي عنها. لن نفعل؛ وليكن ما يكون.