لبنان الدور والرسالة

جان نمّور

وضع البابا الراحل يوحنا بولس الثاني سنة 1997 للبنانيّين هدفًا كبيرًا ينمّ عن رؤية لهذا الوطن الصغير قائلًا: لبنان أكثر من وطن هو رسالة. لقد حاولنا على مرّ السنوات تحقيق هذه الرسالة، لكنّنا فشلنا ولأسباب متعدّدة في تحويل التركيبة التعدّديّة الهشّة التي تجعل من لبنان شديد التأثّر بمحيطه، إلى مصدر لقوّته ورسالة لمحيطه، ولأنّنا لم نستطع صياغة تحديد موحّد للدور والرسالة وتحويلها إلى نوع من عقد اجتماعي جديد.

مؤخّراً في خضمّ الأزمة الأخيرة التي يمرّ بها لبنان، وأثناء عودة البابا فرنسيس من زيارته للعراق، أدلى بحوار صحافي قال فيه: "لبنان رسالة... لبنان يتألّم... لبنان يمثّل أكثر من توازن... لبنان فيه بعض الضعف الناتج عن التنوّع، بعض هذا التنوّع الذي لم يتصالح، لكن لديه قوّة شعبه المتصالح كقوة الأرز".

في الواقع، إذا أردنا التبحّر في البحث بما قاله البابا فرنسيس فإنّ المصالحة مربوطة بشكل عضوي بمسألة النظام القادر على إدارة التنوّع.

فبعد مئة عام على إنشاء دولة لبنان الكبير تبيّن وجود الكثير من الثغرات الهيكليّة التي تجعل من الصعوبة إدارة التنوّع إلّا بمساعدة الخارج و/أو راعي إقليمي بمثابة وسيط أو محكّم. إنّ أكثر الخيارات اشكاليّة كانت اعتماد نظام حكم مركزي على مستوى المؤسّسات السياسيّة (Institutions)، في مجتمع متنوّع على مستوى البنية المجتمعيّة (Societal Structure).

لمناقشة هذه الإشكاليّة، يجرّنا البحث إلى مسألة اللامركزيّة السياسيّة كأحد أبرز الأنظمة المطروحة في علم السياسية لإدارة المجتمعات ذات الهويّات المركّبة كالمجتمع اللبناني. فالدستور اللبناني لسنة 1926 اعتمد على مبادئ مركزيّة الدولة التي كانت سائدة في وقتها في فرنسا. غير أنّ الدستور الفرنسي قد تطوّر فيما بعد، لينحو صوب اللامركزيّة الموسّعة للتعامل مع النزعة الانفصاليّة لجزيرة كورسيكا على سبيل المثال، والتي تتمتّع السلطات فيها اليوم بصلاحيّات موسّعة.

بالمقابل وعلى الصعيد اللبناني، تأخّر الإصلاح لسنوات، فالإصلاحات الدستوريّة الأخيرة التي جرى الاتّفاق عليها منذ حوالي 30 سنة (الطائف) نصّت على اللامركزيّة الإداريّة، إلّا أنّ ذلك بقي دون أيّ تطبيق، والسبب الحقيقي هو عدم وجود رغبة حقيقيّة في وضع هذه الإصلاحات حيّز التنفيذ.

ويلاحظ في هذا المجال بأنّ أغلب المكوّنات السياسيّة متّفق على وجوب المباشرة في مسألة اللامركزيّة الإداريّة، إلّا أنّ هذه القوى، ومن باب المواربة، تطرحها مع كثير من الصلاحيّات للسلطة المحليّة من باب ملامسة الفدراليّة، للالتفاف على التسمية فقط، مع العلم أنّ عددًا من القوى السياسيّة على الساحة اللبنانيّة قد طرحت في وقت من الأوقات من تاريخها الفدراليّة كحلّ للمشاكل السياسيّة التي يتخبّط بها لبنان. قوى سياسيّة أخرى تشيطن مبدأ الفدراليّة بحجّة عدم المسّ بـ "وحدة لبنان"، مع أنّها تمارس نوعًا من الحكم الذاتي في مناطق نفوذها بحكم الأمر الواقع.

إنّ النزاهة الفكريّة والسياسيّة تفترض الحدّ الأدنى من الشفافية في طرح الأفكار والممارسة السياسيّة. يجب ألّا تبقى الفدراليّة من التبوهات السياسيّة، إذ يمكن اعتمادها من الناحية العلميّة بالاستناد إلى معايير يحدّدها لبنانيّون بحوارهم الداخلي. فالإمارات العربيّة المتّحدة قد اعتمدت الفدراليّة على الرغم من أنّ مواطنيها جميعهم عرب ومسلمون، الأمر الذي أنتج ثباتًا في النظام السياسي وفتح المجال لتطوّر اقتصادي هائل. التفكير النقدي يُلزمنا مناقشة أيّ فكرة من دون أيّ حاجز أو مواربة للوصول إلى مصالحة وطنيّة شاملة، ومن دون تهميش لأيّ فئة أو شريحة لبنانيّة.

إنّ اللامركزيّة السياسيّة بالإضافة إلى قدرتها على إدارة التنوّع، تساهم بشكل جدّي في الإنماء المتوازن وتعزيز الشفافية والمحاسبة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نرى أبناء بعلبك الهرمل يتخبّطون بالمشاكل المختلفة، عاجزين عن تغيير واقعهم من الناحية السياسيّة والاجتماعيّة، في ظلّ دولة مركزية تتعامل معهم بصفتها دولة بوليسية، لا يوجد أيّ تفاعل معها إلّا من خلال القوى الأمنيّة والقضاء.

في 17 تشرين من سنة 2019، خرج اللبنانيّون وفي داخلهم رغبة في تغيير الطبقة السياسيّة، إلّا أنّ هذا التغيير مربوط بإمكانيّة الناخب على محاسبتها والتأثير في القرار السياسي، وهنا دور اللامركزيّة أيضًا في تغيير الطبقة السياسيّة وتحييد الإنماء عن المناوشات السياسيّة في الدولة المركزيّة. إنّ مساوئ النظام المركزي هو الشلل، وهذا هو التوصيف الصحيح لواقعنا اللبناني منذ سنوات.

إنّ الاستمرار في المقاربات الرديئة عينها هو استيلاد للمشاكل عينها. أعتقد أنّ الوقت قد حان لتسمية الأشياء بأسمائها واتّخاذ الخطوات اللازمة لتطوير النظام وترسيخ المصالحة. من واجب المثقّفين إطلاق النقاشات وإدارتها من خلال أطر واضحة، لنُخرج الحوارات من الغرف الضيّقة ونقود الشارع ونقدّم البديل بانتفاضة ثقافيّة شاملة وسلميّة.