جان نمّور
تشنّ الطبقة السياسيّة منذ فترة طويلة حربًا على السلطة القضائيّة لإحكام السيطرة عليها، مستعملةً كافّة الأدوات لضربها من الداخل والخارج ولإظهارها كأضحوكة، لا سيّما من خلال طلبات الردّ والتنحّي المقدَّمة بحقّ المحقّق العدلي في جريمة تفجير مرفأ بيروت، والتي تحوّلت إلى نقطة خلافيّة بين اللبنانيّين، وبالتالي معرفة الحقيقة فيها هي شرط أساسيّ لإعادة اللحمة بينهم أو نقطة انطلاق نحو نظام سياسي جديد.
البعد السياسي للحرب على السلطة القضائيّة هو تغيير النموذج الثقافي اللبناني الليبرالي القائم على الحريّات وتقويض القضاء وتحويله لأداة قمعيّة بوجه الشعب اللبناني. وقد خرجت هذه الحرب عن عقالها وأخذت منحى أخطر عندما صمد المحقّق العدلي طارق البيطار بوجه الضغوط وإملاءات السلطة، وقالها بكل جرأة إنّه بغضّ النظر عن وجود قانون يقرّ باستقلاليّة السلطة القضائيّة أو عدمه، هو مستقلّ باللحم الحيّ، فكان ردّ السلطة بمجموعة من المواقف، أهمّها:
1. حضور وفيق صفا إلى قصر العدل في بيروت، وتجرّئه على إطلاق التهديدات بحقّ القاضي البيطار من دون أن يصدر أيّ موقف سياسي معترض، لا سيّما من وزير العدل.
2. اتّخاذ وزير الماليّة موقف مستغرب بعدم التوقيع على مرسوم تعيين رؤساء الغرف لدى محكمة التمييز تحت حجج ظاهرها طائفيّ. إلّا أنّ هذه الخطوة هي ليست سوى محاولة للاستفادة من الظرف السياسي لإحكام السيطرة على الهيئة العامّة لمحكمة التمييز، مع ما يستتبع ذلك من سيطرة على مجلس القضاء الأعلى وتغيير هويّته من الاستقلاليّة النسبيّة إلى التبعيّة السياسيّة الكاملة للمنظومة الحاكمة.
3. آخر الإبداعات غير القانونية تمثّلت بكتاب وُجّه بالأمس من وزير العدل لمجلس القضاء الأعلى لتعيين محقّق عدلي رديف للقاضي بيطار في جريمة تفجير المرفأ، وعلى ما يبدو أنّ خلفية هذا الكتاب هي ضرب ما تبقّى من هذا التحقيق وضرب ما تبقّى من السلطة القضائيّة.
4. ضرب القضاء عبر تجويع القضاة والتحكّم بلقمة عيشهم في ظلّ أوضاع وظروف مأساويّة يعيشها الجسم القضائي، دون اتّخاذ أيّ خطوات جدّيّة للمعالجة، فضلًا عن أنّ قصور العدل لا تتمتّع بأدنى المقوّمات المطلوبة.
إنّ أخطر ما يواجه القضاء في لبنان هو فقدان البيئة الحاضنة المتمثّلة بثقة المواطنين به، والحلول لهذه التحدّيات هي تقنيّة وسياسيّة، فاستقلاليّة السلطة القضائيّة على سبيل المثال ليست مرهونة بقانون، بل هي تُستمدّ من سيادة لبنان وحياده. لا يمكن الحديث عن استقلاليّة السلطة القضائيّة في بلد محتلّ، فلا نخدعنّ أنفسنا!!! إنّ تدمير القضاء هو إمعان المحتلّ في وضع يده على الشعب وشلّ قدرته على المقاومة.
على الشعب اللبناني استيلاد الأمل في إمكانيّة إعادة إحياء القضاء والصمود والمقاومة السلميّة من أجل هذا الهدف. لا يمكننا السقوط في الفخ، فالقضاء ولبنان مترابطان جوهريًّا، يعيشان أو يموتان معًا.