كيف تظهّر ذكرى بشير الجميّل شعوب الشعب اللبناني

هشام بو ناصيف

أتابع منذ أيّام ردود فعل قرّاء مواقع التواصل الاجتماعي على برامج عن بشير الجميّل بثّتها الشاشات المحليّة بذكرى استشهاده. ليست كلّ تعليقات القرّاء المسيحيّين ايجابيّة عن بشير، ولا تعليقات القرّاء المسلمين كلّها سلبيّة. ولكنّ الاتّجاه العام واضح بما لا يقبل اللبس: تقريبا كلّ التعليقات المؤيّدة لبشير مسيحيّة، والتعليقات السلبيّة من قرّاء مسلمين. أمّا القرّاء الذين يدفعون الكراهية لدرجة التهليل لحبيب الشرتوني ونبيل العلم، فيبدو من بروفايلاتهم أنّهم من بيئات مؤيّدة للثنائي الشيعي. بالمقابل، الأوساط المسلمة التي تحيّي ذكرى بشير، سنيّة. فكّر بتغريدة الجنرال أشرف ريفي البارحة عن بشير. فكّر أيضا بالمذكّرات التي صدرت مؤخّرا لرئيس الوزراء الراحل صائب سلام، وبالاعجاب الواضح الذي كنّه لبشير، فضلا عن شعوره بالخسارة لرحيله.

أبعد من ذكرى شخصيّة محوريّة، الخلاف هو على تاريخ لبنان وهويّته وأعدائه. ان كان الخطر الأساسي على لبنان يأتي من النظام السوري، فبشير كان على حقّ بما فعله. وان كان الخطر من اسرائيل، فيمكن ساعتئذ فهم التحيّة للشرتوني. وان كان نظام المارونيّة السياسيّة الذي حاول بشير اعادة انتاجه رغم التغيّرات الديموغرافيّة العميقة التي هزّته نقطة مضيئة بتاريخ لبنان، فالموقف من بشير يكون شيئا. وان كانت المارونيّة السياسيّة نظاما منحازا نصر فئة على حساب فئة، فالموضوع مختلف. وان كان المكوّن المسيحي جماعة فعلا مهدّدة بوجودها ومصالحها وطريقة عيشها، فسياسات بشير مفهومة. وان كان الخطر على المسيحيّين وهميّا، فهي ليست كذلك. انقسامات اللبنانيّين حول هذه الأسئلة وأجوبتها عموما طائفيّة؛ استطرادا، انقسامهم حول بشير عموما طائفي بدوره.

ولا يصعب فهم التمايز بين السنّة والشيعة حول بشير. بالحقيقة، الاستيلاء الشيعي على السلطة في لبنان ما كان ممكنا لولا عنف الاحتلال السوري أوّلا، وتماهي شيعة أمل وحزب اللّه تماما معه، ومع ايران. أمّا وأنّ بشيرا كان الخصم الأشرس لنظام حافظ الأسد بالحرب، فهو مثّل استطرادا العقبة الأولى أمام تحويل جوهر السلطة في لبنان من معادلة الجمهوريّة الأولى، أي شراكة مسيحيّة-سنيّة مع أرجحيّة مارونيّة، الى الوضع الحالي، وهو حكم شيعي خالص، يستفيد منه موالون صغار من الطوائف الأخرى، كجبران باسيل، أو عمر كرامي، أو وليد جنبلاط الذي يطمح لحجز مقعد له الى جانب وئام وهّاب. طبيعي، والحال هذه، أن تأتي التحيّات لحبيب الشرتوني من أوساط شيعيّة. طبيعي أيضا أن يحنّ بعض السنّة لبشير، وهو بالعمق حنين لتركيبة الجمهوريّة الأولى التي أعطتهم وزنا فقدوه لاحقا.

وعموما، لا يختلف اللبنانيّون حول بشير فقط. يحتفي دروز سنويّا بذكرى ميلاد أو استشهاد كمال جنبلاط. متى فعلت طرابلس، أو بشرّي، أو النبطيّة ذلك؟ لسامي الصلح الى الساعة ذكرى طيّبة بين المسيحيّين؛ من يذكره بين المسلمين؟ ثمّ: هل كان الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 مصيبة على لبنان، أم فرصة لتخليصه من ياسر عرفات ومسلّحيه؟ هل كان رفيق الحريري بطلا من أبطال لبنان، وشهيد استقلاله الثاني، أم متآمرا على "المقاومة"، بالتحالف والتنسيق مع الأميركيّين والسعوديّين؟ الأسئلة والأمثلة الأخرى عديدة، وتشمل عمليّا كلّ شخصيّة ذات وزن أو حدث مهمّ بتاريخ لبنان.

هذا النوع من الخلافات العميقة لا تنفع معه ثرثرة العقول القرويّة عن لبنان "الرسالة"، ولا ولدنة من نوع أنّ الحلّ باللامركزيّة، أو بالتلاقي ضدّ "المنظومة"، وسائر افرازات العقل المتخفّف تماما من الواقع والامبيريقيا. أوّل سؤال يطرحه أيّ مجتمع على نفسه هو: من نحن؟ وعندما ينقسم الجواب على أساس هويّاتي، لا تكون الاستقطابات بعيدة.

ما العمل، وحالنا هذه؟ قبل أي شيء آخر، أن نفهم أنّنا مختلفون بالعمق. وثانيا، أنّنا لا ولن نحبّ بعضنا كثيرا. ما نحتاجه ليس المزيد من الكليشيهات عن فرادة لبنان الكبير، وهو فكرة عاطلة منذ كان، بل وصفة لتحقيق أقصى ما يمكن لمجتمع كلبنان أن يصبو له: تنظيم تعايش بارد بين جماعات محكومة بالعيش معا على رقعة أرض ضيّقة. الفارق بين السلام البارد، والحرب الأهليّة المستمرّة، ليس تفصيلا. وان كان لهذا السلام شروطا عديدة لا تتسّع لها هذه العجالة، فالشرط الأوّل هو الانسحاب التامّ والنهائي من سياسات المنطقة ومحاورها، لأنّها لم تتسلّل يوما الى لبنان الّا عبر تحويل خلافاتنا الى حروب.