من "حركة الوعي" إلى التغييريّين: لماذا يفشل الإصلاح في لبنان

هشام بو ناصيف

فرغت اليوم من قراءة كتاب مثير للاهتمام هو حوار طويل بين أنطوان الدويهي، وأورنيلا عنتر، عن تجربة "حركة الوعي"، التي ترأسّها الدويهي مدى سنوات عمرها بين 1969 و1975 (حركة الوعي، الدار العربيّة للعلوم، 2019). وكانت الحركة منظّمة شبابيّة نجحت ببناء تيّار سياسي فاعل انطلاقًا من معقلها في كليّة التربية بالجامعة اللبنانيّة، قبل أن تدهمها الحرب، فتذوي. تبدو الحركة، من خلال عرض الدويهي لها، كتمرين أوّلي لما يعرف اليوم ب"قوى التغيير"، لجهة التشابه بالنقاط التالية:

1) تبرّمت "حركة الوعي" من الاصطفاف التقليدي بين ما اصطلح على تسميته آنذاك باليمين، واليسار، فقرّرت بآخر الستّينات أنّ الوقت حان لبناء "حركة تغيير لبنانيّة وطنيّة حقيقيّة تفرض تجاوز تلك الثنائيّة"، كما قال الدويهي. اليوم، يتبرّم التغييريّون بدورهم من ثنائيّة 8 و 14، ويرفعون شعار "كلّن يعني كلّن" الشهير، ضدّ الطرفين.

2) استطرادًا للنقطة الأولى، لم تفرّق "حركة الوعي" بين أحزاب كالكتائب و الأحرار، من جهة، والحزب الشيوعي من جهة أخرى، باعتبارها كلّها من علامات الانقسام "التقليدي" الذي تمرّدت عليه. ومع أنّ "حركة الوعي" كانت مؤمنة بنهائيّة الكيان اللبناني، لم يشفع للكتائب عند "الوعي" أنّها رفعت الصوت عاليًا ضدّ الانفلاش الفلسطيني في آخر الستّينات، بينما جنّد الشيّوعيّون كلّ قواهم لمساعدته وتعزيزه. اليوم، كال ويكيل تغييريّون أقصى النعوت بحقّ القوّات اللبنانيّة، دون أن يشفع لها كونها حاليًّا ما كانته الكتائب قبلها بالستّينات والسبعينات: أقوى تنظيم لبناني يواجه سلاحًا أنتي-لبناني، بات دولة داخل الدولة اللبنانيّة، وضدّها.

3) تبرّمت "حركة الوعي" بما أسماه الدويهي "الصراعات الكيانيّة المجرّدة"، أي الخلافات الكبرى حول استقلال لبنان، وعلاقته بالعرب، والقضيّة الفلسطينيّة، واعتبرت أنّ الاجندا السياسيّة ينبغي أن تتمحور حول المسائل الاجتماعيّة، بما في ذلك توزيع الدخل، وتقليص الفوارق الاقتصاديّة بين المناطق، فضلًا عن المسألة البيئيّة. هنا أيضًا، يبدو التلاقي جليًّا مع الخطاب التغييري الحالي الذي يؤنبّ جماعة 14 آذار لانشغالهم بالمسألة السياديّة والسلاح غير الشرعي، بدل التركيز على ما يهمّ فعلًا، أي "حقوق الناس" التي ينظر التغييريّون إليها من منطلق اقتصادي أوّلًا.

4) قرّرت "حركة الوعي" بمطلع السبعينات أنّ الوقت حان لتحقيق الديموقراطيّة اللبنانيّة "العلمانيّة الآفاق" (التعبير للدويهي). ولا يبدو من عرض الدويهي أنّ مسألة الهويّة وادارة التنوّع الطائفي احتلّت اهتمامًا زائدًا في تحليل الحركة للواقع اللبناني، وهذا مفهوم ربّما اذ اقتنع محازبوها أنّ العلمنة هي الحلّ، وأنّها على الأبواب. ويرفع التغييريّون اليوم مجدّدًا شعار العلمنة، أو الدولة المدنيّة كحلّ، ويتعفّفون بدورهم عن طرح مسألة الهويّة، أو المسألة الطائفيّة.

الفارق الأساس بين "حركة الوعي" وتغييريّي اليوم هو التكوين الطائفي: تشكّلت كلّ قيادة الحركة تقريبًا من نخب مثقّفة مسيحيّة (عصام خليفة؛ أنطون مالك طوق؛ بول شاوول؛ عقل العويط؛ وسواهم) في حين أنّ تغييريّي اليوم من مشارب مختلفة. يبقى أنّ نقاط التقاطع بين التجربتين أكبر بكثير من نقاط الاختلاف، ما يطرح السؤال التالي: أيّ خلاصة لتغييريّي اليوم من سقوط تجربة تغييريّي الأمس؟

من سرديّة أنطوان الدويهي، يمكن استخلاص ما يلي:

1) ما كادت الحركة تبدأ خطواتها الواعدة الأولى حتّى دخل لبنان مدار التوتّر الاقليمي الذي مهّد للحرب الأهليّة عام 1975، وتسارعت الأحداث الجسام: انفلاش الدور الفلسطيني بعد حرب العام 1967؛ اتّفاقيّة القاهرة عام 1969؛ تحويل الجنوب اللبناني إلى "فتحلاند"؛ القصف الاسرائيلي لمطار بيروت ردًّا على العمليّات الفلسطينيّة انطلاقًا من لبنان عام 1971؛ الخ. وبمجرّد أن حصل كلّ ذلك، تحوّل الخلاف بوجهات النظر بين "اليمين" و"اليسار" – اقرأ: بين المسيحيّين والمسلمين – إلى استقطاب طائفي ومجتمعي حاد، ما جعل المهمّة الأصليّة لشباب "الوعي" (أي تجاوز ثنائيّة يمين/يسار) مستحيلة. وفي هذا درس مهمّ للتغيريّين اليوم مفاده التالي: بقدر ما يجرّنا الاقليم إلى قضاياه ومحاوره، بقدر ما يتحوّل التوتّر المكتوم بين المكوّنات اللبنانيّة الى حرب أهليّة مستترة، أو صريحة؛ وبمجرّد أن يحصل ذلك، تختفي فورًا القواعد التي يمكن أن ترفد الاصلاحيّين بدعامتهم الشعبيّة، ويلتحق اللبنانيّيون بزعاماتهم التقليديّة القادرة على إدارة لعبة الاستقطاب بشكل أفضل من التغييريّين. العكس صحيح: بقدر ما نبتعد عن الاستقطاب المجتمعي، بقدر ما تطفو على السطح القضايا التي تريح قوى التغيير، لا الزعامات التقليديّة، عنيت تحديدًا المسائل الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئيّة. تاليًا، ينبغي على الاصلاحيّين جعل حياد لبنان قضيّتهم الأولى. الحياد، بالحقيقة، ليس مصلحة لبنانيّة خالصة وحسب من وجهة نظر وطنيّة، بل هو أيّضا مصلحة للتغيريّين أنفسهم، من زاوية سياسيّة بحتة.

2) استطرادًا للنقطة الأولى: كلّ ما يدمّر الدولة في لبنان، يضرب بالوقت عينه حظوظ الاصلاحيّين، لأنّ هذه تفترض استقرارًا مجتمعيًّا ولو بحدّه الأدنى، وهذا بدوره تشرطه حصريّة السلاح بيد الدولة، باعتبار أنّ تسلّح جهة طائفيّة في لبنان يعني فورًا استنفار الجهات الأخرى. تاليًا، لا يزال السلاح غير الشرعي اليوم، ما كانه بالأمس: الشرط النافي لاحتمالات التغيير. وما بقيت الدولة ضعيفة، فالموقع الطبيعي لقوى الاصلاح إلى جانب القوى السياديّة ولو "تقليديّة". كان ينبغي بهذا المعنى أن تحترم "حركة الوعي" نضال الكتائب ضدّ السلاح الفلسطيني، لأنّ وجوده ينفي الدولة، وتاليًا احتمالات اصلاحها. الأمر عينه صحيح بالنسبة للقوى السياديّة وتغييريّي اليوم. وليس مطلوبًا طبعًا من التغييريّين أن يذوبوا بالسياديّين، كما لم يكن ضروريًّا بالأمس أن تذوب حركة الوعي بالجبهة اللبنانيّة. ولكن المفروض الانتباه الى أن لا أولويّة كانت ممكنة فوق حماية الدولة من السلاح بالسبعينات، ولا أولويّة اليوم فوق ضرورة استعادتها منه. هذه الأولويّة تفرض مرحليًّا أقلّه تموضعًا سياسيًّا من خارج منطق "كلّن يعني كلّن" الطهراني. هذا علمًا أنّ الطهرانيّة، عمومًا، ليست تفكيرًا بالسياسة، بل استقالة منه مغلّفة برطانة أخلاقويّة. أمّا التفكير الجدّي بالسياسة فيفهم أنّها قبل أي شيء آخر مسألة توقيت وتنظيم للأولويّات يتحرّك حسب طبيعة المراحل.

3) طرحت "حركة الوعي" العلمانيّة بالسبعينات، أي قبل سنوات فقط من انتصار الخميني في إيران، واطلاق موجة أصوليّة اسلاميّة متطرّفة مستمرّة في لبنان والمنطقة إلى الساعة. يكفي التوقّف عند هذه المفارقة للانتباه إلى مدى الانفصال عن الواقع المجتمعي الذي عاشه تغييريّو الأمس. أقرّ الدويهي في حديثه مع عنتر عن "حركة الوعي" على مشارف الحرب: "نحن لم نكن موضوعين في أجواء الحرب ... كنّا نعيش في عين العاصفة دون أن ندري" (الصفحة 151). وما كان صحيحًا بالنسبة للحرب، كان صحيحًا أيضًا عن "الآفاق العلمانيّة"، التي حلم بها الدويهي ورفاقه، بينما الخميني يتأهّب للقبض على السلطة في ايران، والمنطقة تنحو باتّجاه ديني حاد بعد تحوّلات العام 1967. باختصار: قارب علمانيّو الأمس الواقع كما ينبغي أن يكون، لا كما هو عليه فعلًا. وهذا بدوره مطبّ ينبغي على تغييريّي اليوم أن يتجنّبوه. الحقيقة أنّ العلمنة ليست واقفة تقرع على الأبواب لأسباب عديدة، منها أنّها تفترض اصلاحًا دينيًّا لم يحصل (وربّما، لن يحصل). التفكير بالمسألة اللبنانيّة الذي يتجاهل تركيبة مجتمعنا الطوائفيّة بحكم الانحيازات الايديولوجيّة القبليّة  (A priori)، ومنها الانحيازات المدنيّة والعلمانويّة، لن ينتج اليوم غير ما أنتج الأمس: الخيبات، واضاعة الوقت.

قال الدويهي إنّه ورفاقه في "حركة الوعي" رموا حجرًا بالمياه الراكدة للسياسة اللبنانيّة، وهم فعلوا ذلك حقًّا. حسنًا فعلوا أنّهم جرّبوا. لا غبار على وطنيّة الطموحات التي عبّروا عنها سيّما أنّ قسمًا منهم لعب لاحقًا أدوارًا أكاديميّة وثقافيّة مميّزة، دون أن يعرف عنهم استزلام سياسي، أو تفريط. ومع ذلك، لم تكن خواتيم الحركة كما تمنّاها الشباب، ولا طبعًا أحوال الوطن. وكي لا تتكرّر الخيبة، ربّما ينبغي على من يرنو للتغيير اليوم التفكير بمسار وخلاصات تجربة تستحقّ الاحترام، ولو خبت.