هشام بو ناصيف
لا أعلم من سيحلّ مكان سعد الحريري في زعامة الطائفة السنيّة بعد انسحابه من الحياة السياسيّة. أعلم بالمقابل أنّ الأصوات التي توحي أنّ التطرّف السنّي سيسدّ الفراغ غير مقنعة. ميل سنّة لبنان إلى الوسطيّة أنتج تجربة آل الحريري، لا العكس، واعتدال الطائفة لم يبدأ مع آل الحريري كي ينتهي معهم. ومع صعوبة التنبّؤ بهويّة النخب الجديدة التي ستصعد تدريجيًّا إلى الزعامة السنيّة، نعلم سلفًا أنّها لن تكون مختلفة جذريًّا عن التجارب السابقة، بما فيها تجربة آل الحريري. حزب التحرير سيبقى على ما هو عليه اليوم: مجموعة تسيطر على نصف زقاق، في ربع حيّ، في طرابلس. داعش لن تستقطب أكثر من حفنات استقطبتها سابقًا. لا موجة ردايكاليّة سنيّة آتية صوبنا، أيًّا تكن المشاكل الأخرى التي نعاني منها.
الحال أنّ أيّ مراجعة لتاريخ الطائفة السنيّة بعد الحرب تظهر أنّ نبضها كان في المكان الصحيح من وجهة نظر لبنانيّة عند محطّتين أساسيّتين: في 14 آذار، 2005، رفدت جماهير سنيّة واسعة ما كان عرسًا لبنانيًّا حقيقيًّا لا يزال إلى اليوم أحلى لحظة وأنقاها بتاريخنا المعاصر؛ وفي تشرين 2019، لم يخيّب الشارع السنّي الآمال المعقودة عليه، فصارت طرابلس عروس الثورة، وقدمّت تكرارًا سلسلة من أجمل مشهديّاتها. هذا النبض لم يكن بحاجة لسعد الحريري كي يعبّر عنه، ولن يختفي لمجرّد أنّه قرّر اعتزال السياسة. وبطبيعة الحال، لن يعجب هذا الكلام جماعة حلف الأقليّات في الوسطين الشيعي والمسيحي. ولكن، لا يهمّ. يمكن تذكير المسيحيّين تحديدًا أنّ جذور انعدام الوزن الحالي الذي يعيشون تعود إلى عقد الثمانينات الرهيب، وتحديدًا إلى ثلاث مآس فيه ضربتهم بالصميم هي التالية: 1) اغتيال الرئيس بشير الجميّل عام 1982. 2) تهجير الجبل عام 1983. 3) حرب الالغاء عام 1990. اللبنانيّون السنّة براء من كلّ هذا: النظام السوري الذي قتل بشير الجميّل، وساهم بشكل مباشر بتهجير الجبل، عدوّ السنّة أيضًا، في لبنان كما في سوريا؛ أمّا حرب الالغاء، فلا يلام عليها سوى من ورّط مجتمعه بها آنذاك بعد سنتين من الرهانات الخاسرة والعشوائيّة. وأيّ مراجعة هادئة لمسار المسيحيّين التراجعي في لبنان منذ أربعين عامًا لن تترك شكًّا أنّ أحدًا لم يفعل بقدر ما فعل النظام السوري لضرب دورهم، ومن خلالهم، لضرب لبنان سيّد، ليبرالي، وحرّ، أي لبنان كما فهمه المسيحيّون يومًا وعملوا لأجله. أن يتحوّل السنّة فجأة إلى عدوّ قسم من المسيحيّين لا يدلّ على شيء غير استعداد نخب مسيحيّة متعطّشة للسلطة لخداع جماهيرها، وقابليّة هذه الجماهير للخداع.
اليوم يخرج الحريري رسميًّا من المشهد. تبدو كلّ التسويات التي عقدها مع النواة الصلبة للنظام اللبناني كقبلات موت توالت عليه حتّى أردته. ما لم يفهمه الحريري هو هذا: مع هؤلاء لا تنفع التسويات، ولا بديل عن المواجهة. يبقى، عمومًا، أنّ السنّة مواطنون لبنانيّيون وأنّ استقالتهم من مصير وطنهم ممنوعة. طريقهم صوب مستقبل مختلف عن الواقع المأساوي هي طريق كلّ الوطنيّين اللبنانيّين إلى أيّ طائفة انتموا، عنيت أوّلًا معركة استعادة السيادة، والدولة؛ وثانيًا بناء نظام بديل يحيّد لبنان عن أزمات المنطقة ومآسيها، ويسمح لكلّ بنيه، ومنهم المكوّن السنّي، بإدارة تنوّعهم بعيدًا عن دورات عنف تعب منها اللبنانيّون، وحقّهم أن يتعبوا.