"عن الرئاسة، وما أبعد: حقًّا ...."هيك مش ماشي الحال"

هشام بو ناصيف

يندرج أداء حزب اللّه بالمسألة الرئاسيّة في إطار مسار عام مستمرّ منذ سنوات بغائيّة لا تخطئها عين: السيطرة على لبنان تمامًا، وحكمه كما يحكم آل الأسد سوريا. قبل أشهر، شكّل توقيف المطران موسى الحاج رسالة واضحة للكنيسة المارونيّة: حزب اللّه يحدّد معايير الوطنيّة والعمالة، وعلى الجميع الالتزام بها تحت طائلة المسؤوليّة. ومنذ أيّام، وجّه المفتي أحمد قبلان، الذي لا يعدو أن يكون صوتًا من أصوات الثنائي الشيعي في لبنان، رسالة تهديد مباشرة للمسيحيّين عندما قال: "حياد لبنان ممنوع، زمن لويس الرابع عشر انتهى، واللامركزيّة الاداريّة الموسّعة خطر وجودي". واليوم، يتمحور أداء حزب اللّه السياسي حول التالي: 1) يصرّ الحزب على سليمان فرنجيّة رئيسًا، ولو أنّ الكتل المسيحيّة والرأي العام المسيحي ضدّه، ولو، أيضًا، أنّ فرنجيّة لم يعد حتّى الأقوى في زغرتا، كما بدا واضحًا بالانتخابات النيابيّة الأخيرة. 2) يصرّ حزب اللّه على المضي قدمًا بجلسة حكوميّة رسالتها الضمنيّة أنّ رئاسة الجمهوريّة لزوم ما لا يلزم، ما دام بالامكان الامساك بالبلد عبر حكومة تصريف أعمال. في هذه المسألة بالتحديد، كانت الرسالة شديدة الوضوح: إمّا فرنجيّة رئيسًا، لنحكم البلد من خلاله، أو ممارسة حكومة ميقاتي صلاحيّات وزاريّة غير محصورة بتصريف الأعمال، فنحكم البلد من خلالها هي. 3) أصرّ الحزب عبر امتداده نبيه برّي على عقد جلسة نيابيّة اليوم الأربعاء (أطاحتها معارضة الكتل المسيحيّة) لدرس مسائل متعلّقة بملفّ الاتصّالات، دع عنك المادّة 75 من الدستور التي تنصّ بشكل واضح على أنّ المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهوريّة يصبح هيئة ناخبة لا اشتراعيّة، بمعنى أنّ المضي بأي أمر تشريعي محرّم دستوريًّا حتّى انتخاب رئيس. ومع أنّ دعوة نبيه برّي المجلس للانعقاد اليوم شكّلت هرطقة دستوريّة جديدة تضاف إلى سجلّه الحافل بهذا المجال، فهي مفهومة من الناحية السياسيّة لجهة الإيحاء للمكوّن المسيحي أنّ عمل المؤسّسات سيستمرّ كما لو أنّ شيئًا لم يكن على مستوى الفراغ الرئاسي، حتّى يذعن المسيحيّون للرئيس الذي اختاره لهم وعنهم حسن نصر اللّه.

بالحقيقة، عندما قرّر حزب اللّه استمرار نبيه برّي بموقعه النيابي، لم يسأل رأي أحد بالموضوع، باعتبار أنّ موقع رئاسة المجلس شيعي. ولكن أن يرفض المسيحيّون عن بكرة أبيهم فرنجيّة، فلا يهمّ، ولو أنّ موقع رئاسة الجمهوريّة مسيحي. الأمر عينه صحيح بالنسبة لرؤساء الوزارة الذين يأتي الحزب بهم، بغضّ النظر عن شرعيّتهم السنيّة الضعيفة، أو المعدومة. ومن هذه الزاوية بالذات، نفهم قبول الحزب (حتّى الساعة) بتقاسم المواقع الرئاسيّة بين الطوائف الثلاث الكبرى، بمعنى أنّه يقبل شكلًا أن تبقى رئاسة الجمهوريّة لمسيحي، والحكومة لسنّي، على أن يكون قرار الاثنين بيد حسن نصر اللّه.

لماذا وصلت موازين القوى إلى هنا؟ الأكيد أنّ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري أزال عقبة أساس أمام سيطرة الحزب على لبنان؛ بهذا المعنى، كان استشهاد الحريري بعد الحرب متمّمًا لمسار بدأ خلالها مع استشهاد الرئيس بشير الجميّل. الأكيد أيضًا أنّ أداء قيادات 14 آذار سهّل المهمّة على حزب اللّه، وهو ما فعله بدوره طموح ميشال عون الرئاسي. المراهقة السياسيّة المستدامة للنوّاب الجدد الذين اصطلح على تسميتهم بـ"التغييريّين" زادت رداءة المشهد، ولو أنّها تفصيل فيه، بنهاية المطاف. باختصار، إن كانت قوّة حزب اللّه الذاتيّة، واستعماله الاغتيالات كوسيلة عاديّة من وسائل العمل السياسي، السبب الأوّل لاطباقه على النظام اللبناني منذ سنوات، فالسبب الثاني مرتبط بارتباك الأخصام، وفشلهم بادارة المواجهة مع الحزب كما تقتضيه المرحلة، خصوصًا لجهة الامعان بوضع الحسابات الصغيرة والتنافس التافه قبل القضيّة الوطنيّة. ولنا بأداء سامي الجميّل مؤخّرًا مثل جديد فاقع حول هذا الموضوع بالتحديد: بالعلن، طالب شيخ الكتائب مرارًا بـ"الطلاق" مع حزب اللّه؛ وبالسرّ، أرسل أمين عام حزبه سيرج داغر ليفاوضه على حصّة أكبر له بالتركيبة الحاليّة.

كلام جبران باسيل بمؤتمره الصحافي اليوم كان عالي النبرة، والتصويب على حسن نصر اللّه الذي "نكث الوعد" كان مباشرًا. هل ابتعاد جبران باسيل عن الحزب جدّي، أم تكتي؟ لو يمضي باسيل فعلًا بخياره الجديد، لوجب الترحيب به فورًا لأنّ التناقض الأساس هو مع حزب اللّه، لا مع باسيل، أيًّا تكن المشاعر السلبيّة التي يثيرها الأخير. ومن نافل القول أيضًا أنّ تلويح باسيل باللامركزيّة على الأرض، ومن طرف واحد، مرحّب به. ولكنّ تجربة باسيل السياسيّة تفيد أنّ كلّ الشعارات والقضايا الكبرى قابلة للاستثمار سياسيًّا بالمفهوم الضيّق للكلمة، على أنّ يتمّ رميها بسلّة المهملات بعد انفراج الأوضاع وانتفاء الحاجة إليها. لهذا، لن يتحمّس كثيرون لخطاب باسيل المستجدّ، مع انّه جيّد.

والحال أنّ المشهد اللبناني الكئيب، موجع: بمقدار ما تتعمّق الأزمة الاقتصاديّة-الاجتماعيّة من تحت، بمقدار ما يبدو الصراع على السلطة من فوق مجرمًا، ومنفصلًا عن هموم اللبنانيّين اليوميّة، ومثيرًا لأقصى مشاعر النفور والكراهية تجاه أبطاله. والحال، أيضًا، أن لا أفقًا ظاهرًا في المشهد الحالي، ولا ضوءًا في نفق لم يبلغ آخره بعد. ما هو أكيد بالمقابل، اثنان: على المدى المباشر، أن يبقى موقع الرئاسة فارغًا إلى ما شاء اللّه أفضل من وصول سليمان فرنجيّة، أو أيّ من امتدادات حزب اللّه اليه، وبغضّ النظر عن استعداد الحزب للتلويح بميقاتي وحكومته للتهويل على المسيحيّين. على المدى الأبعد، لا إعادة النظر بالصيغة محرّمة، ولا حتّى بالميثاق، أي بالفكرة اللبنانيّة نفسها. جبران باسيل أخطأ بأمور كثيرة؛ بكلّ ما فعل تقريبًا. ولكنّه عبّر عن كثر في بيئته بقوله ما قال اليوم : "هيك مش ماشي الحال".