نقاشات فدراليّة (4/4): بخصوص الاثنو – فدراليّة

هشام بو ناصيف

في مجتمع متنوّع طائفيًّا كلبنان، لا معنى للفدراليّة – الجغرافيّة الخالصة، أي لنظام يقوم على بناء ولايات فدراليّة، دون التفكير بالمكوّنات الطائفيّة التي تقيم فيها. ولكن حتّى في هذا المجتمع، هناك أمور أخرى غير التنوّع الطائفي ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند التفكير بالفدراليّة، منها على سبيل المثال لا الحصر البنية الاقتصاديّة التحتيّة للولايات المفترضة، العائدات الضريبيّة التي يمكن جنيها فيها، وما إذا كانت هذه العائدات كافية للقيام بأعباء الادارة المحليّة التي هي علّة وجود الفدراليّة. الخلاصة ممّا سبق بسيطة: في مجتمع كمجتمعنا، لا مكان عند مقاربة الفدراليّة لغير التفكير الاثنو – جغرافي.

واحدة من ضروب الرداءة الفكريّة عند مقاربة الموضوع هي هذه: إمّا نجعل من الولايات الفدراليّة أربع فقط (مسيحيّة؛ وسنيّة؛ وشيعيّة؛ ودرزيّة)، أو نغرق بالفدراليّة الجغرافيّة الخالصة. وفق هذا المنطق، كلّ المشاريع السابقة لهذا التصوّر، بما فيها مشروع أب الفكرة الفدراليّة في لبنان، الأستاذ أنطوان نجم، جغرافيّة خالصة، وهذا غير صحيح. باستثناء طبعًا أنّ هناك من تحرّكه سياسيًّا رغبة المزايدة الطائفيّة، ونفسيًّا عقد الميغالومانيا وجنونها، أي هذا النوع من التوتّر النفسي الدائم الذي يزيّن لصاحبه أنّ تقدّمه هو لا يتمّ إلّا عبر تحطيم الآخرين. يظنّ الممسوسون بهذا الهذيان أنّهم أصحاب رؤيا (Vision)، بينما لا يفعلون، بعزّ الحاجة إلى التفكير البارد، والجماعي، والبحث عن حلفاء من خارج البيئة التقليديّة للفدراليّة، سوى توتير الأجواء، وتحريض بعض الفدراليّين على بعضهم الآخر، والأسوأ، ربّما، تقديم الفكرة بشكل عدائي حادّ يحرّض الكلّ عليها.

الجماعات في لبنان وحدات شعوريّة وسياسيّة. لا يعني هذا الأمر أنّ هويّاتنا يختصرها الانتماء الطائفي (ثمّة أبعاد أخرى حزبيّة، ومناطقيّة، واجتماعيّة، وجندريّة، وجنسيّة) تؤثّر في نفسيّة كلّ منّا؛ ولكن، إن كان الانتماء الطائفي لا يلغي الانتماءات الأخرى، فهذا لا يعني أنّ الخلفيّة الطائفيّة لكلّ منّا عديمة التأثير في خياراته ورؤيته للأمور. وإن كان ثمّة ما هو أكثر رداءة بعد من ثقافويّة جوهرانيّة (Essentialism) تختصر كلّ شيء بالبعد الطائفي، فهو نقيضها العلمانوي المصرّ أنّ الهويّات مجرّد وعي زائف (False Consciousness) ولا بدّ أن تختفي يومًا، ليحلّ مكانها الوعي الطبقي للأمور، أو الهويّات الوطنيّة والقوميّة، وما شاكل. هذه النقطة بالتحديد، عنيت كيف نقارب مسألة الهويّة جديرة بالتوسيع لاحقًا. ما يهمّ الآن الاشارة الى أنّ التفكير بتمثيل الجماعات طبيعي في أيّ مشروع فدرالي لبلد مثل لبنان، سواء كان ذلك عبر مجلس رئاسي تنتخب الطوائف ممثلّيها فيه؛ أو برلمان بيكاميرالي، تتمثّل الجماعات فيه بمجلس النوّاب، بينما ترسل الولايات الفدراليّة ممثلّيها إلى مجلس الشيوخ؛ أو عبر السماح لمن يرغب من اللبنانيّين باتّباع قوانين الأحوال الشخصيّة الخاصّة بطائفته بغضّ النظر عن مكان إقامته على أراضي الجمهوريّة (مع السماح طبعًا لمن يختار القوانين العلمانيّة أن يعيش وفق خياراته)؛ أو ضمان حقوق الأقليّات الطائفيّة ضمن الولايات المختلفة؛ أو كلّ ما سبق مجتمعًا، هذه بالنتيجة مجرّد أمثلة.

ليس التفكير ببنية سياسيّة – دستوريّة بديلة للجمهوريّة اللبنانيّة سهلًا، ولكنّه ليس مستحيلًا. المهمّ ألّا يغيب على البال مسلّمتين: الأولى، ذكرتها سابقًا، أنّ كذبة "إمّا المحافظات الطائفيّة الأربع، أو يكون التفكير الفدرالي جغرافيًّا" هي هذا تحديدًا: كذب، وسفاهة من لا يملك غير السفاهة ليعطيه؛ والثانية، أذكرها دومًا، أنّ التفكير بمسألة النظام حقّ، بل ضرورة، ولكنّ الدعوة لمؤتمر تأسيسي ينبغي أن تلي نزع السلاح غير الشرعي، لا أن تكون سابقة له. ومع الفهم العميق لرغبات التغيير، وهي رغباتنا أيضًا، سيبقى هذا الموقف بالتحديد هو هو إلى ما شاء اللّه: لا حوار مع من يصوّب إلى صدغنا بندقيّة.