بشير صنع الفعل. الى متّى نبقى بردّ الفعل؟

بعد استشهاد الرئيس المنتخب، الشهيد بشير الجميل، في الرابع عشر من أيلول عام ١٩٨٢، برز شعار " بشير حيّ فينا" وأصبح يتردّد في كلّ مناسبة تضمّ مسيحيّين آمنوا بأنّ مصيرهم في هذا الشرق ليس مرتبطا برأفة وتعاطف أكثريّته، بل بقراراتهم وأفعالهم هم. أراد المسيحيّون الشيخ بشير "حيّا بهم" لأنه عرف أن يكون صانع الحدث وليس لاعبا عاديا ينتظر أعمال الآخرين ليتفاعل معها فيما بعد. فكان القائد الشاب يتمتّع بدهاء وحنكة سياسيّة حوّلته بسرعة من رئيس ميلشيا محليّة، الى شخص يصنع المعادلات ويضرب الستاتيكو كما لم يضربه أحد من قبل.

حرب زحلة نموذج عمّا أقول. ففي ربيع عام ١٩٨١، قرّر القائد الشاب الدفاع عن منطقة زحلة فاندلعت اشتباكات عنيفة ما بين مقاتلي القوّات اللبنانية وجيش الاحتلال السوري الذي طوّق مدينة زحلة بمدافعه وبدأ بقصف المدينة لعشرات الأيام بالشكل الهمجي الذي ميّز آل الأسد عبر السنين. الوحشيّة التي قصفت بها زحلة جعلت المجتمع الدولي يتحرّك، واستطاعت عزيمة المقاتلين اللبنانيّين ان تفرض على الجيش السوري استخدام سلاح الجوّ التابع له ضدّهم الأمر الذي اعتبرته اسرائيل خرقا للخطوط الحمر المتّفق عليها ضمنيّا ما بين الدولتين فحرّكت اسرائيل سلاح الجوّ الخاصّ بها وأسقطت مروحيتّين سوريّتين الأمر الذي أثار غضب حافظ الأسد فقرّر ادخال صواريخ "سام-٦" الى داخل الأراضي اللبنانيّة. هذا الفعل شكّل نقطة تحوّل هامّة في مسار الحرب اللبنانية، وقد عرفت هذه الفترة القصيرة بأزمة الصواريخ. وبذلك يكون  بشير الجميّل قد استطاع، من جهة، تأجيج الصراع بين سوريا واسرائيل الأمر الذي ساهم بتوريط الاسرائيلييّن شيئا فشيئا في الصراع الداخلي مع الجيش السوري وبالتالي زعزعة النفوذ السوري في لبنان. ومن جهة اخرى، ساهمت هذه الحرب بإثارة اهتمام الأمريكيّين الذين بدأوا يروا بالقائد الشاب لاعبا لا يمكن تخطّيه ببساطة. ومنذ ذلك الحين انفتحت قنوات الحوار ما بين بشير وواشنطن عبر السفير فيليب حبيب واستطاع بشير كسب تأييد الأمريكيين ودعمهم بهدف وصوله الى سدّة الرئاسة.

العبرة من هذه الرحلة عبر الزمن ليست تكرار أمجاد الماضي بل لتذكير مجتمعنا بقيادات كانت له سابقا، منذ أمد غير بعيد. سؤالي بسيط: هل ذهب بشير وذهبت معه القدرة على المبادرة والتحدّي؟ استطرادا، هل يعتقد أحد اليوم حقّا أنّ سلاح حزب الله سيزول بواسطة الخطابات المشحونة قبل الانتخابات، وطاولات الحوار والنفاق بعدها؟ لعلّ الصوت الأقوى الصارخ في البريّة يبقى صوت البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الذي يحاول بشتّى الطرق تدويل المعضلة اللبنانية وإيجاد حلّ عبر مؤتمر دولي. ويبدو أكثر المستائين من هذا الطرح، الشيخ أحمد قبلان الذي يدعو الى التخلّي عن التدويل والذهاب نحو حوار داخلي. وهذا الأمر متوقّع ومفهوم من المفتي الجعفري الممتاز لأنّ ميزان القوى الداخلي مختلّ ما يعطي حزب اللّه فائضا من القوّة يستطيع من خلاله فرض مبتغاه على الأطراف الأخرى من خلال طاولة الحوار الداخليّة التي لن تكون غير مناورة، واضاعة وقت. امّا في المؤتمر الدولي، فعادة تتولى الدول التي ترعاه تصحيح الخلل الحاصل في ميزان القوّة من خلال فرض ضمانات معينة للأطراف كافّة الأمر الذي لا يناسب الحزب الساعي للتمّسك بهيمنته على مفاصل الدولة، وهو ليس في مزاج يسمح له بالحوار الجدّي بينما تصارع مرجعيّته في إيران وحلفائها الروس  من أجل البقاء.

 باختصار: وضع حزب اللّه كما هو عليه قد يستمرّ طويلا، ويستمرّ معه الوضع الاقتصادي والسياسي المنهار، وتاليا نزيف الهجرة الذي يهدّد بقاء مجتمعنا المحتاج الى شي غير الخطابات، والشعارات المعلوكة.  بالحقيقة، ما يحتاجه مجتمعنا هو العودة لروح المبادرة والتحدّي التي ميّزت بشير، لأنّ هذا المجتمع، ولو متعب، ليس بمستسلم على مستوى القاعدة. المطلوب مشروع واضح، واستراتيجيا، على مستوى القيادة.