هشام بو ناصيف
لنكن واضحين: لا يوجد شيء في الأنظمة الفدراليّة يدعى "سيادة كانتونيّة" إن كان القصد من هذه حقّ الولايات الفدراليّة باتّباع سياسة خارجيّة ودفاعيّة مستقلّة عن بعضها البعض، وعن السلطة المركزيّة. تعطي الأنظمة الفدراليّة المختلفة ولاياتها صلاحيّات كثيرة بمواضيع شتّى؛ ولكنّ السياستين الخارجيّة والدفاعيّة ليستا منها. يعني مثلًا، عندما أعلنت الولايات المتّحدة الحرب على ألمانيا النازيّة، ما كان بإمكان ولاية كاليفورنيا أن تكون على حياد. وعندما دخلت كندا بدورها الحرب العالميّة الثانية إلى جانب الحلفاء، ما كان بامكان الكيبيك أن تنحاز الى دول المحور. تحلّ الفدراليّة مشاكل مهمّة كثيرة ولكنّ مسألة السياسة الخارجيّة ليست منها. من لا يفهم هذا، لا يفهم الأنظمة الفدراليّة؛ نقطة، انتهى.
أسمع من يقول أن حسنًا، لا نريد لبنان دولة فدراليّة بل دولة كونفدراليّة. هنا المصيبة أعظم لجهة الجهل بمفاهيم يتعلّمها تلميذ الحقوق أو العلوم السياسيّة في السنة الأولى. أوّلًا، لا يوجد شيئ اسمه دولة كونفدراليّة، دع عنك التسمية الرسميّة لسويسرا (الفدراليّة). هناك، بالمقابل، اتّحاد دول كونفدرالي، أي دول مستقلّة ترتبط مع بعضها البعض بمعاهدة تعاون. ثانيًا، النظام الكونفدرالي اختفى من العالم. ربّما أقرب نموذج إليه اليوم هو الاتّحاد الأوروبي الذي لم يلغ سيادة مكوّناته، ولا حقّها بالانفصال عنه (فكّر بخروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي بالبريكزيت مثلا). بمعنى آخر، من يطرح الكونفدراليّة في لبنان، يطرح أن تتحوّل مكوّناته إلى دولة مستقلّة، ثمّ ترتبط مع بعضها بمعاهدة تنسيقيّة غير ملزمة بالقضايا الدفاعيّة والخارجيّة الكبرى. المشكلة هنا متعدّدة الأوجه: 1) يتمّ الترويج لهذا الطرح تحت مسمّى الفدراليّة، وهي براء منه. التهمة الأساس التي تواجه الفدراليّة بها هي أنّها تقسيميّة، وإلباسها هذا الطرح يثّبّت التهمة عليها. المأساة هنا أن هذا الطرح "الكونفدرالي" ميّت سلفًا، وكلّ ما يفعله هو إضعاف الفدراليّة التي تملك لو تغيّرت الظروف الحاليّة حظوظًا أكبر. هي الخسارة الخالصة لا أكثر أو أقلّ. 2) هذا الطرح لن يحظى بحليف مسلم واحد في لبنان؛ ولا بدعم دولة إقليميّة وازنة واحدة؛ ولا بدعم دولي. لنتذكّر، على سبيل المثال لا الحصر، فشل الأكراد عام 2017 بالانفصال عن العراق، مع أنّ سيطرتهم على كردستان لا لبس فيها. ببساطة شديدة، لا قابليّة عند المجتمع الدولي اليوم للعبث بخرائط الشرق الأوسط. ومن يراهن على غير هذا يأخذ مجتمعه إلى معركة خاسرة سلفًا. تلوح في البال هنا حرب التحرير عام 1989، أي حفلة الجنون التي كانت موازين القوى المحليّة والاقليميّة والدوليّة ضدّها من اللحظة الأولى. ومع ذلك، خاضها من خاضها، فصار زعيمًا، وسقطت آخر منطقة لبنانيّة حرّة في براثن الاحتلال، أيّ أنّه ربح المعركة هو كشخص، وخسرناها نحن كمجتمع. كان شعار "تكسير رأس حافظ الأسد" جميلًا، أليس كذلك؟ رأس من تكسّر عمليًّا، بسبب سوء الحسابات وعشوائيّتها؟ اليوم، وتحت المزايدة "الكونفدراليّة"، هناك من تحرّكه نفس الرغبة، أي الظهور السريع، وبنفس الهدف، أي الزعامة الشخصيّة، ولو على حساب ما تبقّى من عافية في المجتمع.
أقيم وعائلتي في عين الرمّانة منذ عقود. في كلّ مرّة تطلق الضاحية الرصاص ابتهاجًا بمناسبة أو من دونها، يهطل الرصاص مطرًا عندنا. لو كناّ نحن "كانتون" وهم "كانتون"، كيف تستقيم الأمور؟ نجعل من "السيادة الكانتونيّة" مظلّة نختبئ تحتها؟ وإذا كان الجواب أنّنا ننشئ بدورنا قوّة عسكريّة ونطلق النار، فهذه لا فدراليّة، ولا حتّى اتّحاد كوفدرالي. هذا انفصال شبيه بانفصال باكستان عن الهند. أفهم تمامًا أن يفكّر البعض فيه، ولكن السؤال يبقى هو هو: وفق أيّ حسابات؟ من الحليف؟ ما هي المعطيات التي تسمح به؟ لن نتعب من التكرار أنّ السياسة تحدّدها موازين القوى. من يعتقد أنّ هذه الموازين تسمح اليوم بمشروع انفصالي مسلّح في لبنان، ليشرح لنا كيف. ليس كثيرًا أن نطلب هذا بعد كلّ المغامرات الفاشلة السابقة، وحفلات الجنون.