انطونيو رزق - عن يوغوسلافيا، من منظار مقارن: أيّ خلاصات للبنان؟

شهد العالم في تسعينيّات القرن الماضي سلسلة حروب طائفيّة دامية بيوغوسلافيا السابقة شكّل التطهير الاتني فيها أحد أوجهها المرعبة. ونرى أنّ الغوص بتاريخ يوغوسلافيا مفيد من زاوية مقارنة، ومن وجهة نظر لبنانيّة، وذلك لأنّ تركيبة الشعوب التي شكّلت دولة يوغوسلافيا بالماضي، والتي لا تزال الى الساعة تكوّن الدول يوغوسلافيا السابقة ضمّت خمس قوميّات، أربع لغات، ثلاث طوائف دينيّة، وأبجديّتين. ما نحاول إثباته هو أنّ الأيديولوجيّات، التي تقوم على إنشاء دول ومجتمعات وفق رومنطيقيّات نظريّة مثاليّة تنفي التعدّد المجتمعي الطائفي، وتحاور صهر الجماعات، نتيجتها بالضرورة الاقتتال الأهلي.

يقع البلقان في جنوبي شرقي أوروبا، وهو تقريباً بحجم المملكة المتّحدة من حيث المساحة، وقد تميَّزت هذه المنطقة بجمال طبيعتها وبموقعها الاستراتيجي بحيث تقع بالقرب من وسط أوروبا بالإضافة الى سهولة العبور من خلالها إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. طبعاً هذه الصفات والمميّزات أثارت مطامع الإمبراطوريّات التي تعاقبت عبر التاريخ على احتلال منطقة البلقان منها الرومان والبيزنطييّن والعثمانييّن والنمساوييّن. ومنذ القرن السابع عشر بدأت فكرة الاستقلال تنمو لدى مكوّنات بلقانيّة تعرّضت للغزو المتكرّر، فبرز تصوّر بأوساط المفكّرين في كرواتيا وصربيا مفاده أن على كلّ الشعوب التي تعيش في هذه المنطقة أن تتوَحد كشعب واحد وهو الشعب السلافي الجنوبي، وذلك بغية تأسيس دولة واحدة جامعة تعرف باسم "Yugoslavia". وأمّا "Yugo" فتعني الجنوب؛ وأمّا كلمة " slavia" فتعني الأصل السلافي. واعتبر منظّرون رومنطيقيّون أنّ هدف الدولة المرجوّة حماية الشعوب التي تنتمي إليها من طغيان الامبراطوريّات الطامعة فيها، وإنشاء مجتمع ضمن الأخوّة بين الشعوب التي تكوّنه على الرغم من تنوّعها الطائفي. وبعد الحرب العالميّة الأولى، تجسّدت فعلا فكرة دولة يوغوسلافيا الى واقع ملموس. فقد سقطت امبراطوريّة النمسا-المجر، وسقطت معها سيطرتها على جيرانها في البلقان الذين سنحت لهم الفرصة أخيراً بإنشاء دولتهم المنتظرة منذ قرنين من الزمن. وهكذا نشأت "مملكة الصرب والكروات والسلوفين" وثمّ تم تعديل الاسم الى "مملكة يوغوسلافيا". وبعد قيام المملكة الجديدة، تمّ التخلّي عن الديمقراطيّة بشكل سريع، كما نشأت ديكتاتوريّة ملكيّة أناطت بنفسها قيادة "دولة الحلم والمجتمع المثالي" من خلال نظام سياسي مركزي صارم.

ولكنّ حسابات الحقل اختلفت بسرعة عن حسابات البيدر. الكروات شعروا منذ اللحظة الأولى بمظلوميّة ناتجة عن أولويّة العنصر الصربي عليهم. هذا الفالق الصربي – الكرواتي الذي كان يفترض أن تتخطّاه الوطنيّة اليوغوسلافيّة الجامعة منع عمليّا نشوءها. ثمّ كان أن فجّرت الأحداث الخارجيّة التوتّر الداخلي: ففي العام ١٩٤١ وقّع الملك اليوغوسلافي اتفاقيّة مع قوى المحور، وذلك للحفاظ على استقلال مملكته. إلّا أن الشعب انقسم بين مؤيد ومعارض للتحالف مع المحور. وتصاعد التوتّر الداخلي، الى أن اجتاح هتلر يوغوسلافيا، ما ظهّر اخلاف الشعوب اليوغوسلافيّة حول الخيارات الكبرى. انحاز قسم كبير من الكروات لألمانيا؛ وقد برزت مجموعة " Ustaše" الكرواتيّة التي كانت تعسى لاستقلال كرواتيا عن المملكة اليوغوسلافيّة، بالتحالف مع برلين. وقد ارتكبت هذه المجموعة مجازر بحق الصرب واليهود. بالمقابل، انحاز القسم الأكبر من الصرب ضدّ ألمانيا. والمقاومة ضدّ الاحتلال الألماني شابتها أحداث طائفيّة اذ ارتكب صرب بنفس الفترة أعمال إبادة ضدّ المسلمين والكروات. وهنا لا بدّ من الإضاءة على نقطة الشبه الكبيرة ما بين ما حدث في يوغوسلافيا أثناء الحرب العالميّة الثانية وما حدث في لبنان في محطّتين. الأولى في العام ١٩٥٨، عندما نشأ نزاع مسلّح ما بين المسيحيّين والمسلمين كان سببه انقسام هؤلاء ما بين مؤيّد لانضمام لبنان إلى حلف بغداد وما بين معارضٍ له. فكان المسيحيّون راغبين بالانضمام إلى الحلف، وكان المسلمون معارضين له وراغبين بالتحالف مع عبد الناصر ضدّ الغرب، تماما كما انقسمت الطوائف اليوغوسلافيّة ما بين كروات انحازوا الى دول المحور، وصرب والوا الحلفاء. أمّا المحطّة الثانية، فكانت موضوع الوجود الفلسطيني المسلَح الذي انقسم أيضاً اللبنانيّون حوله ما بين مسيحيّين معارضين ومسلمين متماهين معه، ما فجّر الحرب اللبنانيّة عام 1975. والخلاصة بالحالتين واضحة: مستحيل أن يكون هناك دولة ذات نظام مركزي تضمّ عدّة طوائف، وتتّخذ بنفس الوقت سياسة خارجيّة غير الحياد، من دون أن يؤدّي ذلك الى هزّ أسس هذه الدولة، واطلاق عنان الصراع الطائفي بين مكوّناتها. هذه الحقيقة، من يوغوسلافيا الى لبنان،  واحدة.

وعموما، انتهت هذه الفترة من تاريخ يوغوسلافيا باستلام الحزب الشيوعي اليوغوسلافي السلطة . وتقرّر بعد الحرب إنشاء دولة يوغوسلافيا الشعبيّة الفدراليّة برئاسة رئيس الحزب المذكور " Josip Broz Tito". ما يمكن ملاحظته من خلال دراسة تكوين الحزب الشيوعي في يوغوسلافيا آنذاك هو أنّه كان يقوم على أغلبيّة صربيّة كبيرة، أمّا الكروات، والبوسنيّين، فكانوا فيه على الهامش. إنّ هذا الأمر يذكّرنا بتكوين الأحزاب اليسارية في المجتمعات العربيّة ولاسيّما في مجتمعنا اللبناني. فبالرغم من قيام هذه الأحزاب تحت شعار التقدّم والعلمانية ورفض الانتماءات الضيّقة، فإنّنا نلحظ ان في لبنان المتنوع طائفياًّ كما في يوغوسلافيا، الأحزاب اليساريّة اللبنانية من الحزب الشيوعي، الى الحزب الجنبلاطي المسمّى تقدمي اشتراكي، الى حزب البعث، كلّها أحزاب طائفيّة، مكوّنة من أغلبية طائفيّة شيعيّة أو درزيّة لا تخفى على أحد (أو علويّة، بالحالة السوريّة). وبشكل عام، نعمت يوغوسلافيا بفترة استقرار ازدهار اقتصادي نسبي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي جرّاء الحرب الباردة القائمة آنذاك واستفادة يوغوسلافيا المحايدة من طرفيها. ولكن لا قبضة تيتو الحديديّة، ولا الازدهار، حلّ المشكلة الأساسيّة، عنيت غياب التوافق بين المكوّنات اليوغوسلافيّة، والشكوى الكرواتيّة الدائمة من أرجحيّة الصرب. وهنا أيضا، يمكن مقارنة هذه الفترة من تاريخ يوغوسلافيا بفترة حكم الرئيس فؤاد شهاب في لبنان. فبعد ثورة ١٩٥٨، أتى الرئيس شهاب وهو قائد جيش سابق، وقام بتعزيز عمل جهاز المخابرات العسكريّة، وراهن على تحديث البلاد عبر النظام المركزي. ولكنّ التجربة الشهابيّة فشلت بتجاوزالتناقض الطائفي بين المكوّنات، كما فشل تيتو في يوغسلافيا. وتوفي فؤاد شهاب عام ١٩٧٣، لتندلع الحرب الأهليّة اللبنانيّة بعد عامين. أمّا في حالة تيتو، فانّه توفيّ عام ١٩٨٠ وبدأت الأزمات تتوالى على يوغوسلافيا، الى أن انفجرت الحرب عام ١٩٩٢، واحتدمت الصراعات الدامية التي أسفرت بنهاية الأمر الى تقسيم يوغوسلافيا الى ستّ دول، ومنطقتين ذات وضعيّة خاصّة، منها كوسوفو. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال الطوائف تتصارع الى اليوم حيث هناك أكثريّة بوجه أقليّة وازنة. ويرتقب العالم اليوم التطورات الأمنيّة المقلقة التي تحدث ما بين صربيا وكوسوفو، حيث تطالب الأقليّة الصربيّة الوازنة في كوسوفو بتقسيمه وبانضمام شماله، حيث الصرب، الى جمهوريّة صربيا، وذلك لأنّ الأكثريّة المتواجدة في كوسوفو هي من المسلمين ذوي الأصول الألبانيّة، ولأنّ الأقليّة الصربيّة في كوسوفو لا تشعر بالتماهي معهم.

لقد حاولنا اختصار أهمّ الأحداث التي تمحور حولها تاريخ يوغوسلافيا وذلك بهدف مقارنة هذه التجربة مع التجربة اللبنانيّة وقد تبيّن لنا أوجه شبه كثيرة. انمّا أهمّ ما يستنتج من كل ما استعرضناه هو أنّ المجتمعات المكوّنة من عدّة طوائف، لا يمكن ان تحكم بصورة مستدامة عبر نظام مركزي، علما أنّ الفدراليّة نفسها ليست دائما الحلّ، كما تظهر مآلات يوغوسلافيا الفدراليّة. وهذه نقطة ينبغي للفدراليّين الاعتراف بها: أحيانا، الانفصال هو الحلّ، لا الوحدة من خلال الفدراليّة. من جهة ثانية، لا يمكن حكم مجتمع متعدّد الّا باعتماد سياسة خارجيّة محايدة، والّا تنفجر التناقضات بين المكوّنات. ولا ينفع الأمن والمخابرات والقمع فان الهويّات الطائفيّة ليست أمرا يمكن شطبه، اللّهم إلّا عبر الإبادة الجماعيّة. تاليا، محاولة تبديل الهويّات الطائفيّة بهويّات وانتماءات أوسع مثل فكرة دولة يوغوسلافيا، أو سرديّات "لبنان الرسالة"، كلّها محاولات فاشلة. بالحقيقة، سئمنا من الصبيانيّة الفكريّة. حان الوقت لنقرّ ونعترف أنّ هذا المجتمع اللبناني هو مجتمع طوائفي: كان كذلك في الماضي أيضا، وسيكون كذلك في المستقبل. وعلى افتراض أنّه يمكن أن يستمرّ لبنان ككيان موحّد، وهي مسألة قابلة للنقاش، فينبغي أن نقتنع أن الحلّ الوحيد الواقعي للبنان هو وصفة الحياد، زائد فدراليّة. أي طرح غير ذلك هو استمرار لسياسات الترقيع التي لن تنتج مستقبلا أفضل ممّا أنتجته الى الآن. هل هذا ما يريده اللبنانيّون لأنفسهم؟