انطونيو رزق - بخصوص أنّ الحلّ القبرصي خير من الاجترار اللبناني

يتخوّف البعض في لبنان من سيناريو "القبرصة". فماذا يعني التعبير؟ وهل "القبرصة" مصير سيّئ؟ نرى أنّ بحث الأسباب والأحداث التي أدّت إلى تقسيم قبرص مفيد على سبيل التفكير المقارن. ما نحاول إثباته أنّ التفكير بأمور قبرص يعزّز نتائج التفكير بأمور لبنان: الأنظمة المركزية التوافقية لا تتفع كآليّات حكم لادارة المجتمعات المتنوّعة، ونتيجتها غالبا الاقتتال الأهلي، وأحيانا التقسيم.

تتمتّع قبرص بموّقع استراتيجيّ بامتياز في شمالي شرقي البحر المتوسط. تحدّها تركيا شمالاً واليونان غرباً الأمر الذي أدى إلى إقحامها وَسْط الصراع اللّامتناهي بين الدولتين. بالإضافة إلى الجيرة الجغرافية، ترتبط قبرص بكل من تركيا واليونان سياسيّاً واقتصاديّاّ وثقافيّاًّ بشكل كبير نظراً إلى تكوين المجتمع القبرصي المنقسم الى أغلبيّة من القبارصة اليونانيين المسيحيّين وأقليّة وازنة من القبارصة الأتراك المسلمين. فدائماً ما كان القبارصة اليونانيّون منشدّين شعوريّا الى اليونان وكان القبارصة الأتراك يوازنون ذلك بتقرّبهم من إسطنبول. وبالفعل، وفي كلّ محطّة بارزة من تاريخ قبرص الحديث، انقسمت البلاد ما بين قبارصة يونانييّن موالين لليونان وقبارصة أتراك موالين لتركيا.

خضعت قبرص للاحتلال من قبل المملكة المتّحدة من العام  ١٨٧٨ إلى العام ١٩٦٠، حين نالت الجزيرة استقلالها. خلال زمن الاحتلال، برز اختلاف كبير بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين حول مصير بلادهم في حال الاستقلال. فمنذ القرن التاسع عشر، سعى القبارصة اليونانيّون إلى الوحدة مع اليونان وقد شجّعت اليونان ذلك وأصبح هذا المطلب من السياسيات اليونانيّة المتّبعة في خمسينيّات القرن الماضي. من جهتهم أراد القبارصة الأتراك، في البداية، استمرار الحكم البريطاني. ولكن سرعان ما أصبحوا يطالبون بالتقسيم وبانضمام شمال قبرص حيث معقلهم إلى تركيا. ورحّبت تركيا بالأمر. وفي عام ١٩٥٩، وبعد سنوات من الاقتتال الداخلي بين المكوّنات القبرصية، وُقّعت اتفاقات زوريخ ولندن ما بين المملكة المتحدة وتركيا واليونان والقادة القبارصة من الطائفتين اليونانيّة والتركيّة. فتمّ الاتفاق على دستور للبلاد وعلى استقلال قبرص. وبالفعل نالت قبرص استقلالها بعد عام واعتمدت الدستور المتّفق عليه. جعل النظام الدستوري الجديد من قبرص دولة مركزيّة تتوّزع الصلاحيات فيها ما بين الطوائف فيكون الرئيس من القبارصة اليونانييّن وهو ينتخب من قبلهم. أمّا نائب الرئيس فيكون من القبارصة الأتراك ويُنتخب من قِبَلِهم، مع إعطائه حق الفيتو، بالإضافة إلى تخصيص ثلاثين بالمئة من المقاعد البرلمانية للقبارصة الأتراك. نلاحظ هنا أنّ فكرة النظام المركزي والديموقراطيّة التوافقيّة التي تتوّزع فيه الصلاحيّات بين الطوائف، هي نفسها التي ارتكز عليها الميثاق الوطني التي قامت عليه الدولة اللبنانية بعد الاستقلال عام ١٩٤٣. فالصيغة اللبنانيّة تشبه إلى حدّ بعيد النظام الدستوري الذي اعتُمِد في قبرص عام ١٩٦٠ من حيث الشكل، أي الحكم المركزي، ومن حيث المضمون أي توزيع المناصب والصلاحيات للطوائف. ومثلما رافق هذا الشكل من الحكم في لبنان حرب أهليّة أولى عام ،١٩٥٨ وثانية عام ١٩٧٥، رافق النظام عينه حروبا أهليّة في قبرص.

نظريّا، كان يفترض أن يضمن توزيع الصلاحيّات بين المكوّنات القبرصيّة الاستقرار في الجزيرة. عمليّا، لم يتقبّل القبارصة اليونانيّون أن يتمتّع القبارصة الأتراك بصلاحيّات واسعة وقدرة على التعطيل ضمن النظام الدستوري الجديد رغم أنّهم لا يشكّلون سوى ثماني عشرة بالمئة من المجتمع. فعلًا، وبعد ثلاث سنوات من التعطيل والمناكدات السياسية والشحن الطائفي، وطبعاً دعم كل من تركيا واليونان المليشيات المختلفة بالأسلحة، اشتعل فتيل الحرب الأهلية في قبرص عام ١٩٦٣، وتقاتل القبارصة اليونانيّون الذين طالبوا بتعديل الدستور، والقبارصة الأتراك الذين استقالوا من مناصبهم في الدولة وطالبوا بالانفصال. بقيت الصراعات الطائفية تحت السيطرة نسبيّا حتّى وقع انقلاب عسكري عام ١٩٧٤ نفّذّه قوميّون يونانيون. فرض الانقلابيّون رئيساً جديداً لقبرص طالب بالوحدة مع اليونان. على أثر ذلك، اجتاح الجيش التركي قبرص وسيطر على أكثر من ثلاثين في المئة من الجزيرة ممّا أدى إلى إسقاط حكم الانقلابييّن وتقسيم قبرص ما بين " جمهوريّة شمالي قبرص التركيّة"، والدولة القبرصيّة المعترف بها.

الخلاصة من التجربة القبرصيّة واضحة: الدولة المركزيّة غير صالحة كنظام حكم لادارة المجتمعات المتنوّعة طائفيّا. حتى لو ظنّ البعض أنّ توزيع الصلاحيّات على الطوائف يمكن أن يسمح بالتعايش السلمي فانّ التجربة القبرصيّة تثبت أن هكذا نظام مآله بالضرورة اقتتال الطوائف فيما بينها، وتأجيج الشحن الطائفي لا ترويضه. الأمور في قبرص آلت إلى التقسيم جرّاء هذا النظام السيئ الهجين. لكن ماذا لو كانت قبرص اعتمدت نظاماً فدراليّاً بدل النظام المركزي التشاركي عام ١٩٦٠؟ لا نستطيع أن نجزم أنّ النظام الفدرالي كان ليمنع التقسيم في قبرص، ولكن على الأقلّ نستطيع ان نجزم ان النظام المركزي التشاركي يؤدّي بالضرورة إلى الاقتتال. في لبنان، بقينا فعليّاً ضمن الصيغة الكلاسيكيّة والدولة المركزيّة حتى بعد الحرب الأهلية اللبنانيّة فلم يكن هناك لا نيّة ولا جرأة لدى الأطراف اللبنانيّة للذهاب نحو تغيير جذريّ للنظام القائم. وبالحقيقة، اتّفاق الطائف لم يكن مرّة نظاماً جديداً للبنان، بل هو نفس صيغة ١٩٤٣، ولكن مع تعديلات بتوازناتها الطائفيّة. وها نحن بعد 30 عاما من اعادة انتاج أسا مشاكلنا عبر اتّفاق الطائف، نجترّ خيباتنا. قبرص بالمقابل ذهبت الى الحلّ الجذري. من وضعه أفضل؟ الجواب واضح. وما هو أوضح بعد هو التالي: أيّا يكن الحلّ للبنان، محال أن يمرّ عبر شكل الحكم المركزي.