فؤاد مطران - انتفاضة 15 كانون الثاني: المبادرة الأخيرة ؟


الماضويّة سيّئة بالضرورة، ودافعي لكتابة هذه الأسطر ليس حنينا لحقبة انطوت. مع ذلك، أعترف أنّ رداءة الحاضر–وقلقي من غياب مشروع جدّي لمواجهتها– تردّني ذهنيّا أحيانا ل"انتفاضة 15 كانون الثاني" عام 1986، وللسنوات التي تلتها وسبقت وصول ميشال عون الى السلطة عام 1988، أي أنّني أعود بالذاكرة الى زمن "الشرقيّة" بين هاتين المحطّتين. ربّ قائل طبعا أنّ الانتفاضة كانت حدثاً ثانويّاً بالمسار العام للحرب اللبنانيّة، أو مجرّد صراع على السلطة داخل القوّات اللبنانيّة. بالمقابل، قدّمها مؤيدوها كتحوّل مفصلي كسر مخطّطات الاحتلال السوري للبنان آنذاك. والحال أنّ الانتفاضة كانت تختزن البعدين معا بما هي فعلا صراع على السلطة في القوّات بين سمير جعجع وايلي حبيقة، من جهة، وتمرّد جناح سمير جعجع في القوّات على الاتّفاق الثلاثي، أي رفض هذا الجناح استكمال حافظ الأسد اطباقه على لبنان، من جهة ثانية. ولكن ما يهمّني في هذا المقال ليس تكرار المكرّر بخصوص من تعامل مع النظام السوري، ومن وقف ضدّ الأسد، وماذا كانت الحسابات السياسيّة والشخصيّة للأفرقاء. ما يهمّني هو الانتفاضة بصفتها آخر تحرّك، يُمكن أن يرتقي إلى مستوى المبادرة، أو حتّى المشروع، قامت به قوّة منظّمة داخل المجتمع المسيحي. وبرأيي أنّ مرحلة 1986-1988، أي السنوات التي تلت الانتفاضة مباشرة، تظهر أنّ الانتفاضة لم تكن تحرّكا اعتراضيّا عابرا على الأوضاع القائمة آنذاك، كما لم تكن مجرّد ردّة فعل محصورة برفض الاتّفاق الثلاثي – على أهميّة رفضه آنذاك. بالحقيقة، حملت الانتفاضة بذور مشروع سياسي، اجتماعي، واقتصادي، كان يمكن له أن يقدّم بديلا جذريّا عن الواقع القائم آنذاك، وتاليا الكابوس الحالي، لولا سلسلة ظروف عاكسته، ثمّ قضت عليه.

ما أقصده هو التالي: بين 1986 و 1988، طوّرت القوّات اللبنانيّة شبكة اعلاميّة قويّة شكّلت "المؤسّسة اللبنانيّة للارسال" عامودها الفقري، بالاضافة الى اذاعة "لبنان الحرّ"، ومجلّة "المسيرة". اجتماعيّا، بنت القوّات "مؤسّسة التضامن الاجتماعي" التي قدّمت الخدمات الصحيّة والتربويّة للآلاف من العائلات المحتاجة اليها، لاسيّما تلك التي لجأت الى "الشرقيّة" عقب موجات التهجير بالحرب. عسكريّا، أعادت القوّات تأهيل نفسها لتتحوّل الى جيش شبه نظامي محترف.اقتصاديّا وأمنيّا، نعمت "الشرقيّة" بفترة من الاستقرار النسبي، بقدر ما كانت ظروف الحرب تسمح به. لم يكن الحال مثاليّا، بطبيعة الحال، ولكنّ "الشرقيّة" كان يمكن أن تتحوّل الى نواة "شيء ما" يحلّ المسألة المسيحيّة بلبنان حلّا جذريّا. بالحدّ الأدنى، كان يمكن الاستفادة من قوّة "الشرقيّة" آنذاك لفكفكة النظام المركزي اللبناني متّى حانت ساعة الحلّ. وبالحدّ الأقصى، كان يمكن لل"شرقيّة" أن تكون الخطوة الأولى صوب حلّ أفضل حتّى من الفدرلة، عنيت القبرصة. ولكنّ شيئا من هذا لم يحدث. ومنذ وصل ميشال عون الى السلطة، وأعلن "حرب التحرير" الشهيرة، دخل المجتمع المسيحي بدوامة سياسيّة سلبيّة، وضعته على مسار انحداري لم يتمكّن الى الساعة من إبطائه.

المرحلة الممتدّة من العام 1988 لغاية العام 2005 كانت كابوسا طويلا لما حملته من حروب انتحاريّة، وتغييرات إقليميّة غير مؤاتية للقضيّة اللبنانيّة، واحتلال سوري لكامل الوطن. كان من المستحيل موضوعيّا بتلك السنوات القيام بأيّ مبادرة استنهاض جديّة. ولكن يبدو لي أنّ المرحلة التي تلت الخروج السوري من لبنان لغاية اليوم حملت معها، رغم صعوباتها الأكيدة، فرصا عديدة لتقديم مبادرات كان بإمكانها التأثير على الواقع القائم. على المستوى السياسي، مثلا، بدل الدفاع المستميت عن الطائف، ألم يكن من الأفضل الاعتراف أنّ نظام الطائف غطّى انفلاش حزب الله وتغوّله، ومكنّه من بسط نفوذه على جميع المؤسسات؟

أمّا المبادرة على الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي فكانت لتكون برأيي ممكنة. فهل كان حزب الله قادرا على منعنا من إقامة شبكة أمان اجتماعي لو أردنا التحضير لها منذ 17 عاما تحسّبا للسقوط المحتّم لهذه الدولة، عوض إقناع أنفسنا بـ"الاتّكال عليها"؟ أو هل منعنا حزب الله من تحذير مواطنينا من خطورة ما تقوم به المصارف؟ بمعنى آخر: هل كان ضروريّا أن تكون "السياسة" منذ 17 عاما، انتخابات تلي انتخابات، وشعارات تلي شعارات، دون مشروع واضح، أو قدرة على التخفيف من النزيف الديموغرافي المستمرّ الذي يهدّد عبر الهجرة الكثيفة بقاءنا في هذه البقعة من العالم؟

وبالعودة لانتفاضة 15 كانون الثاني: ربّما تكون قراءتها من زاوية المواقف والحسابات السياسية بمثابة تفاصيل صغيرة بعد 37 عاما عليها. لكنّ الأسئلة المطروحة اليوم تأخذ بعداً مستقبليّا استنادا الى همّ مسيحي وجودي. كلّنا يعلم أنّ الأمور لا ينبغي أن تستمرّ كما هي عليه، لأنّ الستايكو قاتل. ولكنّ السؤال: هل ما زلنا قادرين على المبادرة، كما بادرنا يوما؟