مع تلويح القوّات اللبنانيّة وقوى أخرى وازنة بطرح مسألة النظام، ردّ وليد جنبلاط، وفارس سعيد، وآخرون، بضرورة السعي ل"استكمال تطبيق الطائف" بدل التفكير بتغيير قواعد الّلعبة. يدافع حزب اللّه بدوره عن الطائف، كما كشف قبل أيّام الصحافي المقرّب منه قاسم قصير. الملفت هنا أنّ سياديًّا كفارس سعيد بات حليفًا موضوعيًّا لحزب اللّه بمسألة النظام، ولكنّ هذه مسألة لن أتوقّف عندها الآن. بالمقابل، سأعود إلى نصّ وثيقة الوفاق الوطني نفسه للمحاججة أنّ الطائف، وتاليًا النظام اللبناني الحالي، فخّ ينبغي الخروج منه بسرعة، لا وصفة حلّ ينبغي العمل على "استكمالها". أسبابي، لقول ذلك، أربعة، تتعلّق بصعوبة مواءمة الطائف مع الحياد، وبأنّ لامركزيّة الطائف مزيّفة، ومقاربته لمسألة الهويّة مشوشّة، فضلًا عن أنّ انتظام عمل المؤسّسات الدستوريّة بظلّ الطائف مستحيل. أنشر اليوم الحلقة الأولى من نقد الطائف، على أن تتبعها ثانية لاحقًا.
أوّلًا: بخصوص أنّ علاقة الطائف بالحياد نفي مزدوج
ينصّ البند ب من الفقرة الأولى (المبادئ العامّة) من القسم الأوّل (المبادئ العامّة والاصلاحات) لوثيقة الوفاق الوطني التي أقرّها اللقاء النيابي بمدينة الطائف على ما يلي: "لبنان عربي الانتماء والهويّة، وهو عضو مؤسّس وعامل في جامعة الدول العربيّة وملتزم بمواثيقها". كما ينصّ القسم الرابع (العلاقات اللبنانيّة-السوريّة) على ما يلي: "انّ لبنان، الذي هو عربي الانتماء والهويّة، تربطه علاقات أخويّة صادقة بجميع الدول العربيّة، وتقوم بينه وبين سوريا علاقات مميّزة تستمدّ قوّتها من جذور القربى والتاريخ والمصالح الأخويّة المشتركة".
لنضع جانبًا للحظة التزوير الفاقع للتاريخ الذي يجعل من الدولة السوريّة، وهي عدوّ لبنان الأوّل الذي دأب على تخريبه منذ كان، شقيقة له تربطه بها علاقات مميّزة. السؤال هنا سؤالان: 1) كيف تتّفق هويّة لبنان العربيّة، والتزامه مواثيق جامعة الدول العربيّة، مع مبدأ الحياد؟ 2) كيف تتفّق العلاقات "المميّزة" مع سوريا مع المبدأ عينه؟
ما أقصده هو التالي: تخوض دول الخليج العربي اليوم معركة حياة أو موت مع إيران. بيانات الاجتماعات العربيّة منذ سنوات واضحة بموقفها الداعم لهذه الدول، بمواجهة إيران. أن تكون هويّتنا عربيّة، وأن نلتزم مواثيق جامعة الدول العربيّة، كما نصّ الطائف، يعني منطقيًّا أن نكون إلى جانب العرب بصراعهم مع إيران اليوم. والأمر عينه عنى بالأمس أن نكون إلى جانب العرب بصراعهم مع اسرائيل. وربّما يعني بالمستقبل أن نكون إلى جانب العرب إذا اصطدموا بتركيا. كيف يتلاءم كلّ هذا مع الحياد؟ واستطرادًا: كيف تتلاءم العلاقات "المميّزة" مع سوريا التي كرّسها الطائف، بالحياد؟ بالحقيقة، إن كان الالتزام بالهويّة العربيّة وبمواثيق جامعة الدول يضعنا حكمًا إلى جانب العرب بمواجهة غير العرب، فالعلاقات المميّزة بسوريا تضعنا حكمًا بصفّها ضدّ كلّ من يعاديها، ولو كان عربيًّا. وهذه المسألة كما تلك تجعل من الحياد أضغاث أحلام.
ليست المسألة هنا التحسّس من البعد العربي للبنان انطلاقًا من سرديّات الجذور الفينيقيّة وما شابه. المسألة هي التفكير بالتبعات السياسيّة للقبول بمبدأ التزامات لبنان العربيّة وهويّته. أستشهد هنا بمقطع معبّر من مذكّرات الجنرال فؤاد مالك عن تجربته مع الفلسطينيّين عام 1969 كضابط شاب بالجيش اللبناني. يقول مالك: "كنّا نقيم حاجزًا على مستديرة شاتيلا وكنت أتفقّده عندما وصل مسلّحون فلسطينيّون بلباسهم العسكري في سيّارتين وتوقّفوا وأقاموا حاجزًا بعيدًا عنّا حوالي 20 مترًا. توجّهت نحوهم وسألت : "من المسؤول عن الحاجز؟". قال لي أحدهم: "أنا". قلت له: "اذهبوا واعملوا حاجزًا بمكان آخر." قال: "لا، نحن هنا لنحمي المخيّم". قلت :"اعملوا حاجزًا على مدخل المخيّم." قال: "هذه أرض عربيّة ونحن أحرار أن نعمل عليها ما نريده". خابرت القيادة: "ماذا نفعل؟". قالوا لنا: أزيلوا حاجزكم وعودوا الى الثكنة." (راجع مجلّة المسيرة، عدد 10/11/1997، صفحة 17).
جواب المسلّح الفلسطيني يستحقّ التوقف عنده: "هذه أرض عربيّة". تفسير الجواب: اللبنانيّون، بما هم عرب، لا يحقّ لهم التصرّف ببلادهم من خارج مقتضيات الهويّة العربيّة التي تسمو على مقتضيات السيادة اللبنانيّة. بالحقيقة، هذا بالتحديد ما قاله حافظ الأسد لاحقًا لروبرت ماكفرلين، موفد الرئيس الأميركي رونالد ريغن، الذي زار دمشق مرّتين في آب 1983 لإقناع الرئيس السوري أنّ من حقّ لبنان، كدولة سيّدة، ابرام اتّفاقيّة 17 أيّار، بعد أن أيّدتها غالبيّة كبيرة بمجلس النوّاب. حوار الرجلين محفوظ بوثائق دبلوماسيّة رفعت السرّية عنها قرأها كاتب هذه السطور. جواب الأسد بالحرف لماكفرلين :
“Each country does have the right to define and defend its interests, but in the framework of its Arab nationalist affiliation and its Arab commitments”
الترجمة: "لكلّ دولة (عربيّة) الحقّ بتحديد مصالحها والدفاع عنها، ولكن فقط بإطار انتمائها القومي العربي، والتزاماتها العربيّة" (راجع محضر لقاء ماكفرلين/الأسد، 7 آب 1983، محفوظات مكتبة رونالد ريغان الرئاسيّة، كاليفورنيا). عنى ذلك آنذاك أنّ التزامات لبنان العربيّة تمنعه من عقد اتّفاقيّة سلام منفرد مع إسرائيل، ولو كلّفه ذلك بقاء إسرائيل (وسوريا) على أرضه، واستمرار الحرب الأهليّة سبع سنوات أخرى.
الخلاصة ممّا سبق لا تحتمل اللبس: أن نقول إنّ مقتضيات الهويّة العربيّة التي كرّسها الطائف كما شكّلت تاريخ لبنان حتّى الساعة تنفي امكانيّة حياده، تحصيل حاصل. بالحقيقة، هذه المقتضيات نفت عمليًّا مجرّد السيادة، وحقّنا بسياسة خارجيّة مستقلّة. بهذا المعنى، إصرار الطائف تكرارًا على هويّة لبنان العربيّة، وعلاقات الأخوّة بسوريا، والتزامات لبنان العربيّة، لا ينبغي أن يغيب عن البال عند التفكير به، وبالنظام السياسي الذي يحتاجه لبنان لتستقيم أوضاعه. بوضوح: يحتاج لبنان للخروج من المحاور الاقليميّة التي تستخدم أرضه كساحة للحروب بالوكالة، أي أنّ لبنان يحتاج للحياد. جوهر اتّفاق الطائف، كما نصّه، يجعل من علاقته بالحياد علاقة نفي مزدوج: تقدّم الحياد ينفي الطائف، وثبات الطائف ينفي الحياد.