هشام بو ناصيف - عن اتّفاق الطائف: دفاعا عن القطيعة معه، ضدّ "استكمال تطبيقه" (2/2)


قلت بالحلقة السابقة عن نصّ وثيقة الوفاق الوطني أنّ الطائف، وتاليا النظام الّلبناني الحالي، فخّ ينبغي الخروج منه بسرعة، لا وصفة حلّ ينبغي العمل على "استكمالها". ذكرت أيضا أنّ أسبابي، لقول ذلك، أربعة، تتعلٌق بصعوبة مواءمة الطائف مع الحياد، وبأنّ لامركزيّة الطائف مزيّفة، ومقاربته لمسألة الهويّة مشوشّة، فضلا عن أنّ انتظام عمل المؤسسّات الدستوريّة بظلّ الطائف مستحيل. بعد الحلقة الأولى من نقد الطائف من زاوية الحياد، هذه الحلقة الثانية عن الأٍسباب الثلاثة الأخرى. 

أوّلا: لامركزيّة الطائف كاذبة

واحدة من الأخطاء الشائعة بلبنان أنّ اتّفاق الطائف كرّس اللامركزيّة الموسّعة. بالحقيقة، هذه القضيّة حمّالة أوجه. لنعد الى نصّ وثيقة الوفاق الوطني، الفقرة الثالثة (الاصلاحات الأخرى)، البند أ بعنوان "اللامركزيّة الاداريّة". هذا النصّ الحرفي:

"1-الدولة اللبنانيّة دولة واحدة موحّدة ذات سلطة مركزيّة قويّة.2- توسيع صلاحيّات المحافظين والقائممقامين وتمثيل جميع ادارات الدولة في المناطق الاداريّة على أعلى مستوى ممكن تسهيلا لخدمة المواطنين وتلبية حاجاتهم محليّا. 3- اعادة النظر بالتقسيم الاداري بما يومّن الانصهار الوطني وضمن الحفاظ على العيش المشترك ووحدة الأرض والشعب والمؤسّسات.4-اعتماد اللامركزيّة الاداريّة الموسّعة على مستوى الوحدات الاداريّة الصغرى (القضاء وما دون) عن طريق انتخاب مجلس لكلّ قضاء يرأسه قائمقام، تأمينا للمشاركة المحليّة.5-اعتماد خطّة انمائيّة موحّدة شاملة للبلاد قادرة على تطوير المناطق اللبنانيّة وتنميتها اقتصاديّا، وتعزيز موارد البلديّات والبلديّات الموحّدة بالامكانات الماليّة اللازمة".

لنضع اللامركزيّة السياسيّة (بمعنى وجود برلمانات قادرة على التشريع المحلّي) جانبا للحظة. الطائف، بالحقيقة، لم ينصّ حتّى على اللامركزيّة الماليّة. أقصد ذلك حرفيّا: لا يوجد كلمة "لامركزيّة ماليّة" بوثيقة الوفاق الوطني. الطائف يتحدّث فقط عن أخفّ أنواع اللامركزيّة، وأقلّها أهميّة، عنيت اللامركزيّة الاداريّة. بالحقيقة، هي غير مهمّة لعدّة أسباب، منها التالي: بالعصر الحالي، ينبغي أن يكون بالامكان تأمين الوثائق الثبوتيّة وسائر الخدمات التي توفّرها اللامركزيّة الاداريّة للمواطنين عبر الانترنت، أينما كانوا. ما يهمّ فعلا، في سبيل الحكم المحلّي، هي اللامركزيّة الماليّة، وهي غير ملحوظة بالطائف. تطوير المناطق و"تعزيز موارد البلديّات" رهن كرم وزارة الماليّة، أي الحكومة المركزيّة. هذا علما أنّ توسيع صلاحيّات المحافظين والقائمقامين هو شكل من أشكال اللاحصريّة، أي أخفّ أنواع المركزيّة، على افتراض أن اللاحصريّة هي كذلك.

كلّ هذا سيّئ بما يكفي، ولكن هناك ما هو أسوأ: يقول الطائف أنّ مجالس القضاء الأقضية التي من المفترض أن تجسّد اللامركزيّة "الموسّعة" يرأسها القائمقام، أي ممثّل السلطة المركزيّة الذي يعيّن ويعزل بقرار مركزي. بمعنى آخر، بعد تفريغ اللامركزيّة من محتواها عبر السكوت عن اللامركزيّة الماليّة، يخنق الطائف اللامركزيّة بعد أكثر عبر منع المواطنين في الأقضية من انتخاب رؤساء لمجالسها. أي مركزيّة "موسّعة" هذه هي التي لا تلحظ اللامركزيّة الماليّة، وتضع موظّفا معيّنا من السلطة المركزيّة على رأس مجالس الأقضيّة التي من المفترض أن تترجم اللامركزيّة تطبيقيّا؟

ثانيا:ارتباك الطائف بمسألة التعدديّة المجتمعيّة تام

لا يرتبك الطائف بقضيّة بقدر ارتباكه بالمسألة الأم بلبنان: عنيت المسألة الطائفيّة. هذا ما يقوله الطائف بالفقرة السابعة من البند الثاني (الاصلاحات السياسيّة) لوثيقة الوفاق الوطني: "7- مع انتخاب أوّل مجلس نوّاب على أساس وطني لاطائفي يستحدث مجلس للشيوخ تتمثّل فيه جميع العائلات الروحيّة وتنحصر صلاحيّاته في القضايا المصيريّة". وبالحقيقة، لولا أنّ الأحوال تدعو للبكاء، لأثار هذا المقطع بالتحديد الضحك لأنّه ينصّ، من جهة، على الغاء الطائفيّة بمجلس النوّاب، وبعدها فورا على انتخاب مجلس شيوخ على أساس...طائفي (ما هي العائلات الروحيّة غير الطوائف؟). حسنا. اذا كانت "الطائفيّة" سيّئة، فلماذا استقبالها بمجلس الشيوخ بعد طردها من مجلس النوّاب؟ وان كان جيّدة، فلماذا شطبها من مجلس النوّاب أصلا؟

ولنضع جانبا ضحالة كلمة "أساس وطني لاطائفي" كأنّ الهويّة الما-دون وطنيّة ((Sub-national تتعارض بالضرورة مع الهويّة الوطنيّة، وهذا غير صحيح (لا أحد يقول للايطالي/الأميركي، أو اليهودي-الأميركي، أو الأفريقي-الأميركي، أن عليه التخلّي عن هويّته الما-دون أميركيّة، كي يكون أميركيّا حقّا). لنضع هذا جانبا، ونسأل ببساطة: ما هي "القضايا المصيريّة" التي ستنحصر صلاحيّات مجلس الشيوخ بها؟ هل الزواج المدني الاختياري منها، مثلا؟ ماذا عن حقوق المثليّين؟ ماذا عن المعاهدات الدوليّة؟ ماذا عن مسائل التربية والتعليم؟ بمكان ما، كلّ هذه قضايا مصيريّة. أن يقول الطائف أنّ الشيوخ "الطائفيّين" سيتعاطون حصرا بقضايا خارجة عن نطاق النوّاب "غير الطائفيّين" لا يعدو كونه وصفة للمزيد من الفوضى الدستوريّة في مؤسّساتنا.

يقول الطائف أيضا – ودائما بالبند الثاني (الاصلاحات السياسيّة)، الفقرة ز (الغاء الطائفيّة السياسيّة) – أنّ الغاء الطائفيّة السياسيّة "هدف وطني أساسي يقضي العمل على تحقيقه وفق خطّ مرحليّة، وعلى مجلس النوّاب المنتخب على أساس المناصفة بين المسيحيّين والمسلمين اتّخاذ الاجراءات الملائمة لتحقيق هذا الهدف، وتشكيل هيئة وطنيّة برئاسة رئيس الجمهوريّة، تضمّ بالاضافة الى رئيس مجلس النوّاب ورئيس مجلس الوزراء شخصيّات سياسيّة وفكريّة واجتماعيّة" مهمّتها وضع خطّة لالغاء الطائفيّة. حسنا. ماذا لو أرسل المسلمون طائفيّون أصوليّون لتمثيلهم بالمجلس النيابي (فكّر حزب اللّه)، وأرسل المسيحيّون طائفيّون شعبيّون اليه (فكّر تيّار جبران باسيل). كيف يمكن لهؤلاء التفكير ب"الغاء الطائفيّة"؟ أكثر من ذلك، رئيس الجمهوريّة ممثّل طائفته بالنظام، وكذا رئيس مجلس الوزاء، ورئيس ومجلس النوّاب. كيف سيقوم من وصل الى السلطة على أساس "طائفي" بوضع خطّة تزيل أسباب وصوله اليها مجدّدا، أو بقاءه فيها؟

ولكن هناك ما هو أغرب أكثر. بعد أن يضع الطائف انتخاب مجلس نيابي غير طائفي كهدف، يقول بالبند ج (قانون الانتخابات النيابيّة)، ودائما بالفقرة الثالثة (الاصلاحات الأخرى)، أنّ الانتخابات النيابيّة ستقوم وفقا لقانون جديد "يراعي القواعد التي تضمن العيش المشترك بين اللبنانيّين". وكما هو معلوم، "العيش المشترك" هو تعريفا بين الطوائف. يعني هذا أنّ الطائف الذي يطمح لانتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، حريص أن تضمن قوانين الانتخابات النيابيّة حقوق الطوائف كي لا يهتزّ "العيش المشترك". كيف يستقيم هذا؟

ثالثا:آليّات عمل مؤسّسات الطائف معطّلة

تقول وثيقة الوفاق الوطني (الفقرة 2، (الاصلاحات السياسيّة)، البند ب، (رئيس الجمهوريّة)، أنّ رئيس الجمهوريّة هو "القائد الأعلى للقوّات المسلّحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء". حسنا. ماذا لو أعطى رئيس الجمهوريّة أمرا للقوّات المسلّحة بصفته كقائد أعلى لها، وقال مجلس الوزراء بعكسه؟ ماذا يفعل الجيش؟

ولكنّ الأهمّ في البند ب، هو فقرته 8. تقول، عن رئيس الجمهوريّة: "يصدر بالاتّفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة". الملاحظ هنا أن بخلاف مسائل دستوريّة أخرى (الاعتراض على مراسيم مجلس الوزراء، مثلا)، هذه الفقرة لا تنصّ على مهلة معيّنة ينبغي على رئيس الجمهوريّة اصدار مرسوم تشكيل الحكومة ضمنها. بمعنى آخر: ليس كلّ شيء أن تكون الاستشارات النيابيّة ملزمة لرئيس الجمهوريّة بما يتعلٌّق بتسمية رئيس الحكومة. هذا الأخير، أي رئيس الحكومة، لا يستطيع تشكيل حكومته بمعزل عن توقيع رئيس الجمهوريّة. ببساطة: لا حكومة ان لم يكن رئيس الجمهوريّة راضيا. تاليا: لا حكومة ان لم يحصل رئيس الجمهوريّة على حصّته، وهي أساسا من الوزراء المسيحيّن باعتبار أنّ الرئيس ممثّل الطائفة بالنظام. وان كان للرئيس حصّة، فلرئيس الحكومة حصّة بدوره من طائفته، واستطرادا، لا يمكن ترك رئيس مجلس النوّاب دون "حصّة" طائفته أيضا. بهذا يستحيل أن يكون مجلس الوزراء اللبناني، كما يشكّله الطائف، فريقا متجانسا وظيفته أن يحكم على أساس برنامج يحاسبه النوّاب عليه. هذا المجلس، وفق منطق الطائف، لا يعدو كونه هيئة يرعى فيها ممثّلّو رئيس البلاد، ورئيس الحكومة، ورئيس المجلس، مصالح أولياء أمرهم. ولو كانت هذه الطريق بسوس الشأن العام ناجحة، لما وصلنا الى ما وصلنا اليه.