انطونيو رزق - درس تيمور الشرقيّة: البديل عن مقاومة المحتلّ هو الفناء

"من أصبح سيّداً لمدينةٍ معتادةٍ على الحريّة ولا يدمرّها، فيجب عليه توّقع أن تدمرّه، لأنه في حالة التمرّد كان دائمًا شعار الحريّة وكانت امتيازاتها القديمة تشكّل نقطة تجمّع، لا الوقت ولا المغريات تؤدي إلى نسيانها." هذا ما كتبه  نيكولو ماكيافيلي قبل قرون، وأثبتت التجارب المتكرّرة صوابيّته. كما اعتبر صامويل هانتيغتون أنّ بعض الثقافات تتميّز بحدودٍ داميةٍ بحيث تكون في صراع دائم مع المجتمعات المجاورة لها. على ضوء ما سبق، سنتحدّث عن مسألة تيمور-ليست (أو تيمور الشرقيّة)، علّنا نستخلص بعض العبر المفيدة.

تقع تيمور-ليست في جنوبي شرقي آسيا وتحدّها إندونيسيا غرباً. نتيجة للجيرة ما بين إندونيسيا وتيمور-ليست، نشأ صراع ما بين الشعبين على خلفيّة انتماء المجتمع الاندونيسي للاسلام، والطابع المسيحي لمجتمع تيمور-ليست. عام ١٩٧٤، وقعت ثورة الخامس والعشرين من نيسان في البرتغال ما ادّى الى الاطاحة بنظامه السياسي، وإنهاء الاستعمار البرتغالي في تيمور-ليست، وهو ما اعتبره الإندونيسيّون فرصةً توجب استغلالها. وبالفعل، تضافرت عوامل خارجيّة وداخليّة للسماح للجيش الاندونيسي باجتياح تيمور- ليست دون أيّ اعتراض من المجتمع الدولي. فداخليّاً، وقعت حرب أهليّة ما بين أحزاب تيمور-لست بدعم وتحريض من اندونيسيا. أما خارجياّ، وبظلّ الحرب الباردة القائمة آنذاك، أرادت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها دعم اندونيسيا الموالية لهم بعدما كان استلم الجنرال سوهارتو زمام الحكم في إندونيسيا عام ١٩٦٥ وشنّ حملة تطهير ضدّ الشيوعيّين في البلاد. فمثلما رأى حافظ الأسد بالحرب الأهليّة اللبنانيّة فرصةً لاجتياح لبنان، وقدّم نفسه للغرب انّه داخل اليه للحدّ من نفوذ ياسر عرفات المتنامي في بيروت، ممّا مكّنه من الحصول على الضوء الأخضر الأمريكي، كذلك فعل سوهارتو. استطاعت اندونيسيا اقناع الغرب انها ستدخل الى تيمور-ليست لمحاربة المدّ الشيوعيّ، كون الحزب الأقوى في تيمور الشرقيّة آنذاك كان ماركسيّا، وأيضاً تحت شعار الأخوّة ما بين الشعبين. وفي الحالتين، أتى طلب التدخّل من الداخل، فطالب بعض القادة من تيمور-ليست بتدخّل إندونيسيا ضدّ أخصامهم. بالحقيقة، كان سوهارتو يسعى الى الهيمنة والتوّسع فرأى أن تيمور-ليست حرّة مستقلّة تشكلّ تهديداً له وقد تؤثر على وحدة إندونيسيا، مثلما رأى حافظ الأسد في لبنان الحرّ المستقلّ تهديداً لوحدة وأمن سوريا، لذا طبيعة طلب التدخل بالحالتين شكليّة ولم يكن يوماً ذلك الطلب الحافز الأساسي للاحتلال. بالفعل، دخل الجيش الاندونيسي الى تيمور- ليست في شهر كانون الثاني من العام ١٩٧٥ وبقيَّ اربعة وعشرين عاماً ارتكب خلالها أبشع وأفظع الأعمال الغوغائية بحقّ أهل تيمور الشرقيّة الذين اعتبرهم خونة وشيوعيّين. استطاع سوهارتو عزل تيمور الشرقيّة عن العالم فبدأ حملة تطهير عرقي وثقافي وديني آلت في نهاية المطاف إلى ضرب النمو الديمغرافي لشعب تيمور-ليست بشكلٍ هائلٍ بحيث كان ليزول لو لم ينل استقلاله عام ١٩٩٩ ويستعيد حريّته التي فقدها عقدين من الزمن.

والحال أنّ الوعي الشمولي الذي يحمل ثقافة اإلغاء الآخر يعمد دوما الى احتلال المجتمعات الحرّة المجاورة له. ومن أجل تأبيد الاحتلال، يسعى الشموليّون أيضا لتدمير المجتمعات الحرّة بأيّ طريقة ممكنة.لذا، بالنسبة لهذه المجتمعات، الصمود ومقاومة المحتلّ، مسألة حياة أو موت. ولو لم يقاوم شعب تيمور الشرقيّة الاحتلال الاندونيسي لكان أصبح من الماضي. اليوم، مجتمعنا الحرّ واقع بدوره تحت الاحتلال، ولا يزال محاطا بثقافة تبغضه. فهل يقاوم مرّة جديدة أم يبقى يعاني من النزيف الديموغرافي الى أن يزول وجوده تحت شعار "لبنان الرسالة" وما شابه؟