الإجابة على هذا السّؤال ليست بديهيّة، ودوافع طرحه تهدف إلى بحث تداعيات المطالبة بتغيير النّظام القائم حاليًّا في لبنان. لسنا بحاجة لمن يذكّرنا بأنّ حزب اللّه يسيطر بشكل كامل على الدولة اللبنانيّة، ولا لمن يذكّرنا بقدراته العسكريّة. لكن هل ستأتي المطالبة بتغيير النظام لصالحه؟ الإجابة على هذا السّؤال أيضًا ليس بديهيّة.
فحين نعترف أنّ حزب اللّه يسيطر على الدولة اللبنانيّة، علينا تفنيد مقوّمات وأوجه هذه السيطرة وأسبابها. فرغم أهميّة السلاح ودوره في فرض هيمنة صاحبه، إلّا أن النظام المركزي المشدد سهّل على حزب اللّه مهمّته، ليسيطر ليس فقط على القرار السياسيّ، بل على ماليّة الدولة وإمكاناتها المادّية.
لنبدأ من الشقّ السياسيّ: منذ 7 أيّار 2008، لم يعد حزب اللّه مضطرًّا لاستخدام سلاحه بشكل مباشر ليفرض مشيئته السياسيّة. فبعد وضع يديه على بعض المواقع الرسميّة واحتكاره عدداً من المواقع الحكوميّة، أصبحت موافقته على جميع القرارات الصّادرة عن هذه الدّولة حتميّة لتتمكن من أن تبصر النّور.
فمن الجانب التشريعي، كان كافيًا بالنسبة له فرض خطوط حمراء تتعلّق بموقع رئاسة المجلس النيابي ليستأثر عمليًّا بسلطة القرار غير آبه بموازين القوى داخل المجلس: إقفال المجلس النيابي حين يشاء، استبعاد مشاريع القوانين التي لا تناسبه عبر رفض عرضها على اللّجنة العامّة، واستئثاره بتفسير الدّستور لناحية الأمور الميثاقية.
من الجانب التنفيذي، فبيّن احتكاره لحقيبة الماليّة تحت ذرائع الميثاقيّة وإلزاميّة توقيع وزير الماليّة على المراسيم الحكوميّة، إضافه إلى فرض عرف الثّلث المعطّل، سقطت الحكومات تحت سلطته أيًّا كان لونها. وصولًا إلى موقع الرّئاسة، الّذي استغلّ حزب اللّه قواعد انتخاب الرئيس ليفرض تعطيلًا يمكّنه في النهاية من فرض مرشّحة حتّى لو لم يمتلك الأكثريّة.
بهذه الطريقة تمكّن حزب اللّه من السيطرة على قرارات الدّولة اللبنانيّة: اكتفى بفرض خطوط حمراء على موقعين أو ثلاثة جرّاء المركزيّة المشدّدة، واستغلّ قواعد اللعبة التي يفرضها الطائف لجهة إعلاء مبدأ التوافقية على الديمقراطيّة.
لننتقل إلى الشقّ الثاني المرتبط بموارد الدولة وإمكانيّتها المادّيّة، لبحث الوجه الثاني من سيطرة حزب اللّه والتطرّق لمسألة الفساد واللاعبين السياسيّين الذين ساهموا بتعزيز سلطة الاحتلال.
نعلم جميعًا أنّ السياسات الماليّة والضرائبيّة في ظلّ اتّفاق الطائف اعتمدت على مركزيّة مشدّدة، ترتكز على جمع العائدات بجميع أشكالها لدى الحكومة المركزيّة التي يعود لها وحدها إعادة صرفها وفقًا لما تراه مناسبًا.
بمعنى آخر وأبسط، من سيطر على الدّولة يضع يده حكمًا على جميع مواردها ومداخيلها من ضرائب المواطنين إلى ودائع المودعين في المصارف التي صبّت في نهاية الأمر على شكل ديون بيد الدولة المركزيّة.
فبعد أن بسط حزب اللّه هيمنته، استطاع أن يرث الدور الذي لعبه الاحتلال السوري سابقًا، ليكون الجهة الضّامنة لاستمرار فساد الفرقاء الآخرين (طبعًا بعد حصوله على حصّة وازنة له)، مقابل أن يسهّلوا له حكم الدّولة اللبنانيّة.
لنتخيّل ولو للحظه أنّ لبنان كان يطبّق لامركزيّة ماليّة فعليّة، وأنّ عائدات الضّرائب التي تصل إلى الحكومة لا تشكّل سوى 20% من مجمل الضّرائب التي تجبيها الأقضية أو المحافظات. هل كان حزب اللّه سيتمكّن حينها من إرضاء طمع شركائه مقابل الحصول على ولائهم؟
إذًا، إنّ عرض المقوّمات التي تقوم عليها سيطرة حزب اللّه على الدولة اللبنانيّة يظهر بوضوح أنّ هذا الاحتلال لا يمكن أن يستقيم إلّا بوجود نظام كنظام الطّائف.
لكنّ الأمر لا يقف عند هذا الحدّ. فأضافه إلى منحه السيطرة، أراح اتّفاق الطائف حزب اللّه من تحمّل مسؤوليّة الحكم، عبر تلطّيه خلف أشباح مؤسّسات يصوّرها للرأي العامّ على أنّها ديمقراطيّة وتتحمّل مسؤوليّة ما يصيبهم من أزمات.
فلو كنّا اليوم في لبنان تحت نظام ولاية الفقيه، لكن بالإمكان مطالبة حزب اللّه بتحمّل أبسط مسؤوليّاته أمام مواطنيه لجهة الخدمات الأساسيّة كالكهرباء والمياه والبنى التّحتيّة والاستشفاء والتّعليم. إلّا أنّنا واقعون تحت إرادته ورغبته السياسيّة، من دون أن نستطيع تحميله مسؤوليّة الواقع المذري.
قد يجادل البعض أن من هنا، تأتي مسألة المطالبة بتغيير النظام.
من المفهوم، لا بل من الأصحّ، أن يعتبر من يريد تحرير بلاده من سلطة محتلّة أن لا شرعيّة لأيّ نظام ما دام الاحتلال قائمًا. فلو لم يكن الاحتلال مطمئنًّا للنظام القائم، لوضع تغييره على سلّم أولويّاته. كما أنّ الأنظمة التّي تفرضها الاحتلالات تزول مع زوالها ولا يبقى لها أيّ شرعيّة من بعدها.
لذلك ينبغي على القلقين من المطالبة بتغيير النظام، خوفًا من أن يأتي لصالح حزب اللّه، أن يدركوا جيّدًا أن أوّليّة الحزب تكمن بالإبقاء على هذا النظام للحفاظ على الوضع الراهن المناسب له.
فإذا أردنا فعلًا المواجهة، تصبح المطالبة بتغيير النّظام أمرًا ضروريًّا لسببين: أوّلًا بهدف إيجاد صيغة للمجتمع اللبناني، وثانيًا لأنّها غاية بذاتها لتحدي الستاتيكو الذي ترتكز عليه سلطة حزب اللّه.