في تاريخنا المعاصر المليء بالمآسي، لحظتان جميلتان: 14 آذار، و17 تشرين. الأولى واجهت الاحتلال السوري، والثانية رفعت الصوت ضدّ الفساد الخرافي للنخب اللبنانيّة الحاكمة. عندي أنّ اللحظتين متكاملتان، وعندي خصوصا أنّ من وقف ضدّ الأولى، أو الثانية، انحاز ضدّ لبنان. ليس هذا المقال نقدا ل 14 آذار كحدث، أو نفس استقلالي؛ وهو ليس حتّى نقدا لمسارها اللاحق على مستوى اضاعة البوصلة وبعثرة الصفوف. هذا المقال عن مسألة أخرى لها علاقة وثيقة بالمرحلة الحاليّة: مسألة السيادة، كما يفهمها وينظّر لها السيّد فارس سعيد وشخصيّات أخرى من 14 آذار، واستطرادا مسألة الاحتلال الايراني.
هل هناك احتلال ايراني في لبنان؟ جوابي: نعم، ولكن. ان كان جوهر الاحتلال هو فقدان السيادة، فنحن فعلا دولة محتلّة. ولأنّنا كذلك، أقحمنا بالحرب السوريّة، وساءت علاقتنا بالعرب، وفقدنا القدرة على تطوير سياسة خارجيّة تخدم مصلحتنا الوطنيّة. يبقى أنّ الجيش الايراني لم يجتح بيروت، كما اجتاحها قبلا السوريّون. الدبّابات الايرانيّة لا تصوّب فوّهاتها الى عاصمتنا كما صوّبتها دبّابات الجنرال شارون ذات مرّة. نحن محتلّون لأنّ هويّة طائفة لبنانيّة بأسرها تشدّها صوب ايران، كما شدّت هويّات أخرى جماعات أخرى صوب نصرة فلسطين سابقا. ربّ قائل أنّ هذه الجماعات "خونة" للبنان، ولكنّ هذا تهريج تام. يمكن لشخص، أو لعشرة، أن يخونوا. ولكن لا يمكن تخوين جماعة بأسرها تتصرّف وفق مقتضيات هويّتها. الأكراد بالعراق ليسوا خونة لأنّهم يبغون اقامة دولتهم المستقلّه عنه. هذه هويّتهم، بالنتيجة، وأيضا حقّهم. وبدورهم، الشيعة بلبنان ليسوا خونة لأنّ حساسيّتهم عموما تجاه ما تفعله ايران بنا ضعيفة، وربّما غير موجودة. أيّ ماروني اعترض عندما حطّم السلاح الفرنسي آمال سنّة المشرق ومشروعهم في ميسلون؟ وعندما قصف الفرنسيّون الشام، أو ارتكبوا المجازر بالغوطة، هل استنكرت بكركي آنذاك؟ هل تراجع المفتي حسن خالد عن تطويب منظّمة التحرير كجيش المسلمين يوم أوغل فلسطينيّون بالدم المسيحي في الدامور؟ ولا عموم الشيعة سيستنكرون اليوم ما تفعله ايران. بالحقيقة، المتن العريض للطائفة تماهى وسيتماهى مع نظام الملالي. هكذا منطق الهويّة في هذه المنطقة من العالم.
الى هنا، تصبح مسائل السيادة، والاحتلال، أكثر تعقيدا. المحتلّ بالنسبة لبعضنا منقذ جاء من السماء للبعض الآخر؛ والعكس. تاليا، لا يمكن فصل مسألة السيادة عن مسألة الهويّة. ولكنّ هذا بالتحديد ما يفعله السيّد فارس سعيد، ومعه منظّرون من 14 آّذار. هذا خطأ تحليلي مدرسي.
حزب اللّه لم يكن موجودا عندما فقدنا السيادة بعد اتّفاقيّة القاهرة، عام 1969. ولا كان موجودا يوم ثبّتت اتّفاقيّة ملكارت لاحقا فقدانها، عام 1973. ولا عندما اندلعت الحرب عام 1975. انهارت البلاد، فنما حزب اللّه بين حطامها. ولكنّ حزب اللّه لم يتسبّب بانهيارها، ولا بالفقدان الأصلي للسيادة. ما أوصل الى هذه النتيجة كما تلك الصراع الطائفي السابق لقيام الحزب. ولكنّ هذا ما لا يريد السيّد سعيد التفكير فيه، أو حتّى الاعتراف بوجوده: أنّ في لبنان هويّات مختلفة، وأنّ العلاقة بينها صراعيّة. باستثناء، طبعا، أنّ هذه هي المسألة الأم بسياسة لبنان، وتاريخه. كلّ المسائل الأخرى لاحقة، بما فيها قضيّة السيادة والاحتلالات.