هشام بو ناصيف - بخصوص الشيعة المستقلّين

بقي اليساريّون الشيعة عقودا يرغون ويزبدون ضدّ زعامة آل الأسعد في الجنوب. وفي العام 1974، جاءت فرصة المنازلة مع كامل الأسعد في النبطيّة بالانتخابات الفرعيّة التي أعقبت وفاة النائب الأسعديّ فهمي شاهين. بدا للحظة أنّ الفرصة مؤاتية لليسار باعتبار أنّ الحركة الوطنيّة كانت بأوجّها، والحزب الشيوعي قويّا بالجنوب، أو هكذا خيّل له. وبالفعل، رشّح الحزب الشيوعي عادل الصبّاح للمقعد الشاغر. رشّح البعثيّون بدورهم موسى شعيب، بعد أن فشل كمال جنبلاط بتوحيد الصفوف "اليساريّة". رشّح كامل الأسعد الثري الشيعي كامل علي أحمد. ورشّح الامام موسى الصدر رفيق شاهين. فاز الأخير بالمقعد، وحصد 11633 صوتا. تلاه مرشّح الزعامة الأسعديّة، ب6416 صوتا. أمّا المرشّحان اليساريّان، فكانت نتيجتهما فضيحة حقيقيّة: 1974 صوتا فقط لمرشّح الحزب الشيوعي، بمعقله المفترض الجنوبي، و1200 لمرشّح البعث.

أبعد من معركة فرعيّة، كان سؤال الانتخابات آنذاك مزدوج الأبعاد: 1) هل فعلا اهتزّت الزعامة الوائليّة بالجنوب، بعد قرون من صدارة آل الأسعد السياسيّة؟ 2) على افتراض أنّ الأسعديّين تراجعوا فعلا، من يملأ الفراغ؟ أظهرت الانتخابات أنّ الجواب على السؤال الأوّل ايجابي: الأسعديّة اهتزّت فعلا. ولكنّ من ملأ فراغ الزعامة الشيعيّة كان...زعامة شيعيّة جديدة بقيادة رجل دين، لا اليسار "اللاطائفي". هكذا، قاد الأسعديّون المتن العريض للشيعة العامليّين؛ قبل أن يقودهم موسى الصدر لاحقا؛ ثمّ نبيه برّي؛ واليوم حسن نصر اللّه. الفارق بين كلّ تجربة وما لحقها ليس قليلا. ولكنّ الثابت هو التالي: البديل عن الزعيم الطائفي، هو زعيم طائفي آخر، على يمينه.

التجربة المسيحيّة لا تقول شيئا مختلفا. البديل عن زعامة آل ادّة المتراجعة كانت زعامة بيار الجميّل الصاعدة. كان يقال بالخمسينات أنّ "الآباء مع الكتلة، والأبناء مع الكتائب". لاحقا، طبعا، تراجعت الكتائب نفسها لصالح ... القوّات. واذا تعالى الرأي العام المسيحي على سمير جعجع و"الميلشيات" بنهاية الثمانينات، انتقل الى أحضان ميشال عون، قبل أن يعود اليوم تائبا، وخائفا الى...سمير جعجع والقوّات. هنا أيضا، البديل عن الزعامة الطائفيّة، زعامة طائفيّة أخرى، لا العلمانيّون، أو اليسار، أو أيّ شيء من هذا.

لماذا بكّر البعث السوري بانشاء خلايا بالجيش، وكان سبقه الى ذلك الحزب القومي، ولحقه الشيوعيّون؟ لأنّ هذه الأحزاب فهمت أنّ المتن العريض للطائفة السنيّة بسوريا لن يسير خلفها. من مثّل الوعي السنّي عموما في سوريا هم زعماء السنّة التقليديّون في المدن، ولاحقا، الناصريّة، والاخوان. صحيح أنّ السنّي أمين الحافظ كان بعثيّا، ولكنّه كان على هامش البعث، الذي سبق فشله باجتذاب السنّة سيطرة جناحه العسكري المؤلّف من ضبّاط الأقليّات عليه. باختصار، السنّة السوريّون أيضا انتقلوا من زعامة طائفيّة الى زعامة طائفيّة أخرى. هكذا لعبة الطوائف بمنطقتنا، وان كان هناك من لا يريد فهمها، فالمشكلة بأدواته المعرفيّة، لا باللعبة ذاتها.

نصل الى ما يعرف اليوم بالشيعة المستقلّين. من صفوفهم سقط لقمان سليم، وشجاعته لا غبار عليها. لا أملك كلمات تكفي للتعبير عن مدى احتقاري للاغتيال السياسي، ولمن يستعمله باطار اللعبة السياسيّة. المسألة هنا ليست مسألة تقييم أخلاقي أو سياسي للشيعة المستقلّين. المسألة هي: 1) هل يصحّ الرهان عليهم كمنافس مفترض لحزب اللّه داخل الطائفة الشيعيّة؟ 2) ما العمل، بهذه الحالة أو تلك؟ جوابي، بحسب كلّ التجارب السابقة، بما فيها تجربة اليسار الشيعي بالسبعينات كما أسلفت، أن لا. المستقلوّن الشيعة لن ينافسوا حزب اللّه جديّا، ولن يشكّلوا كتلة وازنة بالطائفة. غالب الظنّ أنّ حزب اللّه القوي اليوم يتّجه الى مزيد من القوّة عندما تأتي مرحلة ما بعد نبيه برّي. حركة أمل، بالنتيجة، ليست مؤسّسة. ومع غياب قائدها، سينفرط قسم كبير من جمهورها. واذا سلّمنا أنّ البديل عن الزعامة الطائفيّة هو فعلا زعامة طائفيّة أخرى على يمينها، فسيكون حزب اللّه هو مستقبل قواعد أمل، لا الشيعة المستقلّون.

يستطيع سامي الجميّل، والحال هذه، أن يدعو ديما صادق الى بيت الكتائب. لا مشكلة. ويستطيع يتامى الأمانة العامّة لقوى 14 آذار أن يبتهجوا بهذا الوجه الشيعي المستقلّ، أو ذاك. لا مشكلة أيضا، شريطة أن يعلموا أنّ هؤلاء لم، ولن يمثّلوا أي قاعدة جديّة يمكن الاتّكال عليها بطائفتهم. من يعوّل على غير ذلك يخطئ. ومن يستخلص من حضور الشيعة المستقلّين مناسبات القوى المناوئة لحزب اللّه أنّ الصراع في لبنان ليس طائفيّا، يخطئ أكثر.