الاصلاح: شيطان المنظومة

أنطونيو رزق

منذ انهيار القطاع المصرفي في لبنان عام ٢٠١٩، حجزت البلاد لنفسها مقعداً في نفاثة الانهيار الكاميكازية السالكة مساراً عمودياً لا قعر له، فأطل اليوم نائب رئيس مجلس الوزراء الدكتور سعادة الشامي وحذر اللبنانيين بأن " هناك نهج سيؤدي الى تضخم مفرط مثلما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى وفي فنزويلا حالياً." وكان الشامي من أبرز الوجوه التي سعت بشكل جدي ودؤوب على اتمام الاتفاق مع صندوق النقد الدولي ومن اكثرها تشديداً على اهمية التقيد بالشروط التي يطلب الصندوق تحقيقها قبل منح لبنان اية قروض. تبعاً لحماسه على الاصلاح والخطوات الجدية، لم يسلم الشامي منذ الانهيار من الهجمات والاستهداف، فالمنظومة الحاكمة في لبنان معدومة الارادة والقدرة لجهة الاصلاح ولكن تمتلك إمكانيات وإرادة هائلة لجهة الهروب الى الأمام وعرقلة اي عملية إصلاحية في إنتظار ظرف دولي او اقليمي يعيد انعاشها من جديد لتستمر بالنهب الى ما شاء الله.

بالحقيقة، المنظومة نشأت عقب انقلاب اهل الطائف عليه عام ١٩٩٢ مع بداية الولاية الأزلية للرئيس نبيه بري على رأس المجلس النيابي. منذ ذلك الحين، استطاعت المنظومة ان تصمد بوجه عدة اخطار هددت استمرارية مخطط البونزي الذي امن تمويلها وبالتالي وجودها. ولكن هذا الصمود لم يكن بقدرتها الذاتية، فكان دائماً الخلاص يأتي، إما بدعم خارجي، إما جراء ظرف دولي او اقليمي استثنائي تستفيد منه وتركب موجته الى بر الأمان. بالفعل، ما بين عام ١٩٩٢ و٢٠٠٥، تعرض النظام النقدي في لبنان الى عدة تهديدات كادت ان تؤدي الى ما وصلنا اليه اليوم في حينها، ولكن بوجود الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي تمتع بعلاقات خارجية على أعلى المستويات، استطاعت المنظومة ان تلملم نفسها بمساعدة مؤتمرات للمانحين نظمتها فرنسا، كباريس ١ عام ٢٠٠١ الذي كان من شأنه اعادة الثقة بالاقتصاد اللبناني الأمر الذي فشل، ما حتم انعقاد مؤتمر باريس ٢ عام ٢٠٠٢ الذي ضخ حوالي ٤.٥ مليار دولار في الاقتصاد اللبناني دون اشتراط مسبق من اعضاء المؤتمر على الطغمة الحاكمة القيام بإصلاحات نظراً للعلاقة المتينة التي جمعت الرئيسين شيراك والحريري. طبعاً، لم تستخدم هذه الأموال لتنفيذ اي مشروع اصلاحي بل هدرت على التوظيف الزبائني وعلى العقود بالتراضي الملغومة التي نهشت ايرادات الدولة على مر السنين. بعد اغتيال الرئيس الشهيد عام ٢٠٠٥، استمر النهج نفسه مع تعديل بسيط وهو عدم إقرار موازنات، مما حتم العودة الى الرئيس شيراك. فعام ٢٠٠٧، انعقد مؤتمر باريس ٣ لدعم لبنان ولكن هذه المرة اتت التعهدات المالية مشروطة بإصلاحات لم تتحقق حتى اليوم وبالتالي لم يستفيد لبنان من معظم اموال المؤتمر. ولكن، لعبت الظروف الدولية دور المخلص هذه المرة. ففي العام ٢٠٠٨، اندلعت الأزمة الاقتصادية العالمية فبرزت حركة رساميل مهمة من داخل البنوك الغربية الى خارجه وقد علق بعض من هذه الرساميل المتنقلة في شباك القطاع المصرفي اللبناني. علاوة على ذلك، وفي الفترة نفسها، ارتفع سعر النفط ارتفاعاً قياسياً ما ادى الى استفادة السلطة من البترو- دولار الخليجي. شهد لبنان تبعاً لذلك، ما بين عامي ٢٠٠٨ و٢٠١٢ تدفق حوالي ٥٠ مليار دولار. ولكن، ومرة اخرى، عوض استخدام هذه الأموال للقيام بأي عمل مفيد، هُدِرَتْ كما الملايين التي سبقتها. عام ٢٠١٨، حاول الرئيس سعد الحريري لعب دور ابيه الشهيد عبر مساهمته في عقد مؤتمر سيدر. إنما كانت اموال هذا المؤتمر مشروطة بإصلاحات لم تنفذ فلم يستفيد لبنان. لذا، بعد فشل السلطة بتأمين دعم خارجي ينقذها من مأزقها وبعدم توافر اي فرصة اقليمية او دولية يمكن انتهازها، باغتت ثورة ١٧ تشرين المنظومة واسقطت مخطط البونزي الذي صمد حوالي الثلاثين عاماً.

اليوم، تحاول المنظومة شراء الوقت والهروب الى الأمام علّه وعسى يأتيها مخلص إما على شكل مؤتمر دعم دون شروط اصلاحية ترفضها او على شكل ظرف اقليمي او دولي تستفيد منه بطريقة من الطرق. لهذا السبب بالذات، ترفض المنظومة وضع اي خطة اقتصادية جدية وترفض أخذ صندوق النقد الدولي على محمل الجد بل هي تغازله في الوقت الضائع بانتظار المخلص أياً يكن شكله. لذا، على اللبنانيين تقبل الواقع التالي: ليس هناك اي مبلغ من المال ممكن ان تضع المنظومة يدها عليه دون ان تهدره. لا يهم قيمة المبلغ؛ ثلاث مليارات او عشرة او خمسون. هذه الطغمة الحاكمة منذ مطلع التسعينيات تتنفس من اوكسيجين الزبائنية والفساد والصفقات. اي عملية اصلاح جدية او اي خطة اقتصادية، تستوجب تعطيل الادوات التي تؤمن استمرار السلطة الغاشمة في نهب شعبها. صندوق النقد الدولي، كما مؤتمري باريس ٣ وسيدر قبله، يشترط على لبنان القيام بإصلاحات. ولكن، الاصلاح هو شيطان المنظومة لذلك ستسعى بكل ما اوتي لها من قوة على محاربته. لذا، من يريد الاصلاح عليه مواجهة هذه السلطة بإرادة مماثلة قبل ان يأتي مخلص المنظونة من الخارج كالعادة وينعشها فتستمر في نهش ما تبقى.