غرّد المفتّش العام المساعد لدار الفتوى في الجمهوريّة اللبنانيّة الدكتور حسن مرعب معلّقا على أحداث الجنوب: "نصرة للمرابطين في المسجد الأقصى أيا يكن من أطلق الصواريخ من جنوب لبنان سلمت يمينه ولا هانت جبينه". يعلم الدكتور مرعب بطبيعة الحال أنّ في لبنان مسيحيّون ومسلمون؛ يعلم أيضا أن لا ارتباطا شعوريّا للمسيحيّين بالمسجد الأقصى؛ ويعلم أخيرا أنّ جرّ لبنان الى الصراع مع اسرائيل رتّب ويرتّب عليه تبعات لا يتحمّلها المسلمون وحدهم. ما لم تقله تغريدته بالحرف، ولكنّها قالته ضمنا، هو هذا: المسلمون هم يقرّرون سياسات لبنان؛ وليس على النصارى سوى القبول وتحمّل النتائج، أو الرحيل. دع عنك خطابات التكاذب، والتعايشيّة: هذا هو المغزى الحقيقي للتغريدة، وللوعي الذي تعبّر عنه، وهو وعي جماعي، وليس وعي الدكتور مرعب وحده.
لماذا على المسيحيّين القبول بسياسات لا يريدونها؟ الجواب متشعّب، ويختزل معطيات منها ثقافي (أولويّة المؤمنين على الذميّين المقيمين معهم بديارهم)، ومنها سياسي (قدرة الغالبيّة على فرض ارادتها على الأقليّة، بحكم موازين القوى). متى وضعنا هذا المعطى بذهننا (أقصد أنّ المجتمعات العربو-اسلاميّة تراتبيّة، وفيها جماعات فوق، وجماعات تحت، وفق سلّم قيمي خلفيّته دينيّة)، تصبح تغريدة الدكتور مرعب مفهومة. ويصبح مفهوما أيضا قرار العراق قبل أسابيع منع استيراد الكحول الى أراضيه. صحيح أنّ في العراق مواطنون غير مسلمين، وصحيح أيضا أنّ شيئا لا يمنعهم دينيّا من شرب الكحول، ولكنّ على هؤلاء بدورهم الخضوع، أو الرحيل. وهم، بالفعل، يرحلون، بالعراق، وفي كلّ المشرق.
وعلى سيرة دار الفتوى، هذا ما قاله مديرها العام حسين القوتلي بتصريح شهير نشرته جريدة السفير بتاريخ 18 آب، 1975: "هناك موقف واضح في الاسلام هو أنّ المسلم لا يمكن أن يقف من الدولة موقف اللامبالي، وبالتالي، لا يمكن أن يكون موقفه من الحاكم والحكم موقفا مائعا يرضى بأنصاف الحلول. فامّا يكون الحاكم مسلما والحكم اسلاميّا فيرضى عنه ويؤيّده، وامّا أن يكون الحاكم غير مسلم والحكم غير اسلاميّ فيرفضه ويعارضه ويعمل على الغائه، بالّلين أو بالقوّة، بالعلن أو بالسرّ." تغيّرت أمور كثيرة بالعالم في العقود الفاصلة بين تصريح القوتلي، وتغريدة مرعب، ولكنّ الوعي الأكثري، الفوقي، والتراتبي، لم يتغيّر. بالحقيقة، بمقدار ما يزداد الضمور الديموغرافي للمسيحيّين بلبنان، وينحسر معه نفوذهم السياسي والثقافي، بمقدار ما تنحسر معه احتمالات تغيير هذا الوعي، على افتراض انّها قائمة.
المأساة أنّ هناك بين المسيحيّين الى الساعة تفكير عالق بسرديّة لبنان الرسالة والترهات المشابهة. وبمقدار ما تظهر التطوّرات على الأرض خطل رهانات أصحاب هذه الخرافة، بمقدار ما تزداد نقمتهم على المسيحيّين الذين تخفّفوا من التفكير الرومنطيقي، ومن سحر الشعارات الكبرى المنفصلة تماما عن الواقع المحيط بها. لا أحبّ التخوين عند الخلاف بالرأي، ولا أقول ما سأقوله الآن والسعادة تملأ قلبي: بالحقيقة، رومنطيقيّو التعايشيّة المسيحيّون مجرمون بحقّ بيئتهم. ذلك أنّ هذه البيئة تصارع كي تبقى؛ وأهمّ ما بصراع البقاء هو الوضوح الذهني. وجلّ ما يفعله رومنطيقيّو التعايشيّة تشويشه.