نقل الصحافي ابراهيم بيرم في "النهار" عدد الجمعة الماضية عن مصدر بحزب اللّه قوله: "نحن عندما اخترنا أن نسميّ فرنجية مرشحنا لملء الشغور الرئاسي كنّا ندرك أنّنا نسميّ واحدا من أربعة سياسيّين دعاهم سيّد صرح بكركي ذات يوم للاجتماع تحت مظلّته ليوحي صراحة أنّ هؤلاء الأقطاب جديرون بأن يكون أحدهم رئيسا للجمهوريّة". جوهر التصريح سيّء النيّة لسبب واضح: الحزب اختار فرنجيّة لأنّه مطواع تماما، لا لأنّ البطريرك بشارة الراعي طوّبه زعيما من الزعماء الأربعة. يبقى أنّ شكل التصريح مصيب لأنّ الراعي دعا فرنجيّة فعلا للاجتماع الشهير في بكركي، أي انّه قبل باعطاء هذا النوع من الشرعيّة لسياسي لم يعرف عنه – وعائلته – منذ خمسين عاما غير التبعيّة العمياء لنظام آل الأسد بدمشق، ولاحقا، للحزب الخميني. بهذا يكون الراعي ساعد حزب اللّه بتقوية فرنجيّة، أي دعم الخصم الأوّل لطائفته بمعركته ضدّها.
لم تكن خطوة الراعي بجمع الأقطاب الأربعة آنذاك موفّقة. ولا كانت موفّقة زيارة الراعي لسوريا عام 2013. ماذا نفعت غير اعطاء النظام السوري المعزول آنذاك جرعة دعم يحتاجها؟ هل ساهمت بعودة اللاجئين، مثلا؟ هل توقّفت دمشق عن مساعدة الحزب الخميني على التمدّد على حساب أشلاء الدولة اللبنانيّة؟ أقلّه، هل أطلع نظام الأسد عائلة واحدة من عائلات المفقودين اللبنانيّين بالسجون السوريّة على مصير أحبّائهم؟ الجواب على كلّ هذه الأسئلة أن لا طبعا. ماذا أنتجت اذا تلك الزيارة الشهيرة؟ مفهوم أنّ الراعي أراد آنذاك أن يتصرّف كغير ما تصرّف البطريرك الراحل نصر اللّه صفير ليشير للجميع انّ لبكركي سيّد جديد. هذا لا يعني، بالمقابل، انّ رفض صفير زيارة سوريا كان خطأ، ولا انّ الراعي قدّم جديدا لم يقدّمه سلفه. بالعكس تماما.
نصل الى تصريح البطريرك الأخير الذي تطرّق فيه الى الفدراليّة. هذه حرفيّته: "نحن مع تطبيق الطائف نصّا وروحا. هذا لا ذكر فيه للفدراليّة، بل للامركزيّة الاداريّة. فلنطبّق هذه اللامركزيّة، ولنعتبر الفدراليّة طرحا أو مقولة ساقطة، وتمّ التداول بها من قبل البعض خلال الحرب اللبنانيّة، وانتهى الموضوع". هناك كمّ من الأسئلة التي تحيط بهذا التصريح ليس أقلّها التالية: 1) منذ سنوات، يدافع البطريرك عن الحياد كحلّ للبنان، والطائف لا ينصّ عليه. لماذا يحقّ للبطريرك أن يطرح فكرة من خارج الطائف، ولا يحقّ للفدراليّين؟ ان كان البطريرك يعتبر الطائف منزلا، فليتنازل هو عن الحياد، قبل أن يصف الفدراليّة بما وصفها به. 2) الطائف ينصّ على الغاء الطائفيّة السياسيّة. يعني هذا، عمليّا، الانتقال من الوضع الحالي، على علّاته العديدة، الى حكم العدد. وهذا، أي حكم العدد، بالتحديد ما يعيشه أقباط مصر؛ هل هذا ما يريده البطريرك لبيئته؟ 3) هؤلاء "البعض" الذين تداولوا بالفدراليّة خلال الحرب يدعون كميل شمعون، وفؤاد افرام البستاني، وانطوان نجم، وغيرهم من هذا الطراز. يعلم البطريرك طبعا أنّ هؤلاء لم يكونوا هواة، ولا قليلي الحرص على مسيحيّي لبنان.
أبعد من ذلك: تطالب القوّات اللبنانيّة منذ فترة ب"تغيير التركيبة". سامي الجميّل طرح "الطلاق". كذلك فعل مجد بطرس حرب قبل أيّام. حتّى جبران باسيل يطالب باللامركزيّة الماليّة. كلّ القيادات المسيحيّة تعبّر عن رغبتها بالتغيير الجدّي، والأهمّ منها شعبها الناقم بدوره، والذي يعبّر عن سخطه امّا بالهجرة، وامّا بمواقف تتراوح بين المطالبة بالفدراليّة، أو ما بعدها. الراعي لم يضع نفسه فقط بمواجهة الفدراليّين بقوله ما قال؛ بالحقيقة، عندما يتمسّك باللامركزيّة الاداريّة، هو يجافي القوّات، والكتائب، وشخصيّات مستقلّة كمجد حرب، فضلا طبعا عن الفدراليّين، أي يجافي جلّ طائفته. بكلّ احترام لموقعه الكريم: كلّ هؤلاء على خطأ، وهو وحده، أي البطريرك الراعي، على حقّ؟
استطرادا: هل يمكن لنا أن نسأل على أي أساس يأخذ البطريرك الراعي قرارته؟ ان كان هناك من مركز دراسات تابع لبكركي، أين هو؟ هل من فريق عمل حول البطريرك؟ من أعضاؤه؟ هناك من يقول طبعا أن لا مركز دراسات، ولا فريق عمل، ولا مأسسة جديّة لبكركي. هل هذا صحيح؟
عذرا، غبطة البطريرك. لم نقتنع بتصريحك الأخير. تماما، بالمناسبة، كما لم نقتنع بمبرّرات استقبال وفد حزب اللّه ببكركي قبل أشهر، أو جميل السيّد - الوجه المثير للنفور للنظام الأمني اللبناني-السوري زمن الاحتلال - قبل أسابيع. الاحترام لبكركي واجب، وهي حاضنة الذاكرة التاريخيّة لشعب جبل لبنان، ولهويّته. ولكنّ البطريرك الراعي لا يختصر بكركي بشخصه. وسواء اقتنع البطريرك الراعي أم لم يقتنع، لا أمل يرجى من الستاتيكو الحالي. بقاء الستاتيكو يعني فناءنا، ولو بعد حين. أمّا استمرارنا، فشرطه تغيير قواعد لعبة باتت منذ زمن مستمرّة على حسابنا.