هشام بو ناصيف - عن السودان وتونس: بخصوص الاستثناء العربي المديد

بالشكل، لا شيء يجمع بين المعارك الطاحنة التي تدور في السودان حاليّا، وبين توقيف الزعيم الاسلامي البارز بتونس، راشد الغنوّشي. بالمضمون والجوهر، أحداث السودان كما تطوّرات تونس جزء من مسار عام يشكّل مجرى الأحداث في المنطقة العربيّة منذ انتفاضات العام 2011 الشعبيّة، وأعني به فشل التحوّل الديموقراطي فيها. ومع الأسف طبعا للدم السوداني البريء الذي يسيل اليوم بالخرطوم وبسائر أماكن الصراع في السودان، فالفجيعة الحقيقيّة تأتي من تونس، لأنّ الأمل بالسودان لم يكن مرّة كبيرا. صحيح أنّ الملايين التي انتفضت ضدّ حكم عمر البشير قدّمت مشهدا مبهرا، ولكنّ الصحيح أيضا أن لا حجم الطبقة الوسطى السودانيّة، ولا دور الجيش وطبيعة العلاقات المدنيّة-العسكريّة بالسودان، ولا التركيبة الاثنيّة-القبليّة للبلاد وارث الحروب الأهليّة المتناسلة فيها منذ خمسين عاما، لا شيئا من كلّ هذا عنى انّ الشروط البنيويّة للتحولّ الديموقراطي السوداني متوفّرة. تونس، بالمقابل، رفعت آمال الليبراليّين العرب لأسباب عديدة، ليس أقلّها انّها أطلقت شرارة الانتفاضات العربيّة في ديسمبر 2010، ثمّ نجحت حيث فشل الآخرون، أي باسقاط النظام سلميّا، وباطلاق مسار سياسي تخلّلته انتخابات نيابيّة ورئاسيّة حرّة، على خلفيّة تعدّديّة حزبيّة حقيقيّة، وحريّات عامّة مضمونة دستوريّا. تفاءل عديدون بكلّ ما سبق، وكثر الكلام بالعقد الأخير عن حيويّة الطبقة الوسطى التونسيّة، ودور المرأة، والارث البورقيبي، وحياد الجيش، والتجانس الاثني المساعد سيّما انّ الحساسيّات الجهويّة بين الداخل والساحل لم تتحوّل مرّة الى حرب أهليّة مفتوحة تقسم الشعب التونسي الى شيع متصارعة كما الحال بدول عربيّة أخرى. فاذا ما أضفنا الى كلّ ذلك القرب الجغرافي من أوروبا، وحجم الدياسبورا في فرنسا، وتأثّر تونس عبرها بالأفكار والقيم والسياسات الأوروبيّة، بدا التفاؤل الذي حرّكته ثورة الياسمين التونسيّة مبرّرا. ولعلّ هذا التفاؤل كان ضروريّا نفسيّا، بمكان ما، للبحث عن خبر مفرح واحد، وسط خيبة الآمال من مآلات الأوضاع بسوريا، واليمن، وليبيا، والبحرين، ومصر، أي بكلّ دول الربيع العربي الأخرى. ثمّ كان أن قبض الرئيس تونسي قيس سعيّد على السلطة عام 2019، وشرع باعادة تونس الى حظيرة الاستبداد العربي، مستفيدا من عوامل مساعدة ليس أقلّها الأوضاع الاقتصاديّة الصعبة، والصراعات الحزبيّة التي أرهقت التونسيّين طوال عقد تلا عام 2011 دون أن يقدّم أبطالها أي شيء يذكر لتحسين أوضاع المواطنين العاديّين. كما استفاد سعيّد من فشل الحكومات التي أعقبت سقوط نظام بن علي بقصقصة جوانح الأجهزة الأمنيّة التابعة لوزارة الداخليّة، سند النظام القديم الذي لم يتصالح مع سقوطه، ولا مع التطوّرات اللاحقة. وربّما يكون سعيّد استفاد أيضا من تأييد خفي لبعض جنرالات الجيش.

بالحقيقة، يضاف فشل التحوّل الديموقراطي الحالي الى فشل سابق بالعراق، حيث قضى التدخّل العسكري الأميركي على نظام صدّام حسين، وشرع ببناء عراق ديموقراطي بديلا عنه، أو هكذا خيّل له. ولكنّ "هديّة الأجنبي"، كما أسماها الراحل اللامع فؤاد عجمي، ذهبت سدى. وما تخيّلته ادارة بوش الابن قلعة للديموقراطيّة ببغداد ينشرها العراق لاحقا بالمنطقة العربيّة صار مجرّد دولة فاشلة أخرى تحكمها ايران بالواسطة، تماما كما سوريا ولبنان واليمن. الخلاصة انّ شيئا لم يصالح الدول العربيّة مع الديموقراطيّة، لا الاحتلال الأجنبي الذي لم ينجح باعادة انتاج تجربة اليابان وألمانيا بعد الحرب العالميّة الثانية بالعراق، ولا الانتفاضات الشعبيّة التي فشلت بدورها في المنطقة العربيّة، رغم أنّها نجحت باطلاق شرارة التحوّل الديموقراطي بمناطق أخرى من العالم (فكّر أوروبا الشرقيّة على سبيل المثال لا الحصر).

في العام 1993، نشر صامويل هانتغتون كتابه المعروف عن الموجة الديموقراطيّة الثالثة بالعالم، والذي حلّل في صفحاته ظروف التغيّرات العميقة التي حوّلت أكثر من ثلاثين دولة بين 1974 و1990 من الحكم الاوتوقراطي الى الديموقراطيّة. من يومها، كثر الكلام عن الاستثناء العربي (Arab Exceptionalism)، أي عن فشل المنطقة العربيّة بأن تحذو حذو أميركا اللاتينيّة، وأوروبا الجنوبيّة (اسبانيا، البرتغال، اليونان)، وأوروبا الشرقيّة، وآسيا الشرقيّة، بالتحوّل الديموقراطي. وان كانت ثورات العام 2011 أوحت لوهلة أنّ العرب خرجوا من استثنائهم، ان صحّ التعبير، فكلّ ما جرى من يومها، بما في ذلك أحداث السودان وتونس الأخيرة، ظهّر مجدّدا ان الاستثناء العربي حيّ يرزق، وهذا سيّء بما يكفي، والأهمّ، أنّ لا أفق للخلاص منه، وهذا أسوأ.

لماذا تفشل الدول العربيّة بالتحوّل الديموقراطي؟ ما هي أسباب الاستثناء العربي، بمعنى آخر؟ الأجوبة شائكة، ويختلط فيها المعطى السياسي (طبيعة العلاقات المدنيّة – العسكريّة، ودور الضبّاط العرب بوأد الاحتمالات الديموقراطيّة في المنطقة)؛ بالمعطى الاقتصادي (دور الاقتصاد النفطي بتعزيز تغوّل الدولة على المجتمع)؛ بالمعطى الجيوبوليتكي (قدرة الأنظمة العربيّة على الاستفادة من الصراعات الدوليّة الكبرى لتثبيت سلطتها على المجتمع، من الحرب الباردة في السابق، الى الصراع الأميركي – الصيني الحالي). يبقى معطيان لم يحظيا بما يكفي من الاهتمام الأكاديمي، أقصد دور المنظومة القيميّة الدينيّة بتعقيد احتمالات التحوّل الديموقراطي، والأهمّ ربّما، التحوّل الليبرالي (الديموقراطيّة الليبراليّة قائمة على المساواة بين المواطنين؛ هذا يجعلها نقيضا ايدولوجيّا للمنظومة التي تقوم على أولويّة المواطن المسلم على غير المسلم؛ والرجل على المرأة؛ وغير المثلي على المثلي). ومن جهة ثانية، مسار الدولة الأوروبيّة التاريخي حسم الصراع على نهائيّتها أوّلا، ثمّ أطلق لاحقا مسار التحوّل الديموقراطي فيها (فكّر فرنسا مثلا). بالمقابل، واجهت الدولة العربيّة منذ قيامها تحديّين لوجودها الذي رفضه البعض باسم الهويّات الما-فوق دولتيّة (القوميّون العرب، الاسلاميّون، الشيعة الخمينيّون)، كما رفضه البعض الاخر باسم هويّات ما-دون دولتيّة (الأكراد، جنوب السودان). هذا المعطى بدوره عقّد التحوّل الديموقراطي لأنّه من الصعب، وربّما من المحال، أن تتّفق جماعات على العيش معا بظلّ حكم ديموقراطي، قبل أن تحسم أوّلا أمرها بالعيش معا بظلّ دولة ترتضيها جميعا. وان كانت المعطيات السياسيّة والاقتصاديّة والجيبوليتيكيّة المعطّلة للديموقراطيّة شديدة التعقيد بذاتها، فان تقاطعها مع المعطيات الدينيّة والهويّاتيّة المذكورة يجعل من التحوّل الديموقراطي العربي أملا بعيد المنال. وكم كان صائبا ذلك الوعي اللبناني الذي أراد منذ اليوم الأوّل تحييد بلاده عن مخاضات العرب وصراعاتهم. وكم كان سخيفا اتّهامه ب"الانعزاليّة". ومن فهم قبل سواه أن لا أمل يرتجى من مآلات الأوضاع بالمنطقة، وأنّ أقصى ما يمكن القيام به هو حماية لبنان منها، لا يدين بأيّ اعتذار لأحد.